هل قررت أربيل، في خضمّ الصراع على السلطة الإقليمية، الانضمام إلى الكتلة السنية؟
فرزند شيركو – fikraforum
يعتمد أمن إقليم كردستان العراق على الاتفاقات المبرمة بين أربيل والدول المجاورة لكردستان أكثر من ارتباطه بالقدرات الأمنية والاستخباراتية الخاصة بالإقليم. فكلما شعرت القوى الإقليمية المحيطة به بأن مصالحها في خطر، لم تتردد قط في تعريض أمن الإقليم واستقراره للخطر من أجل تأمين مصالحها الخاصة. مع ذلك، فإن مصالح هذه القوى الإقليمية، والتي تتعارض بشكل متزايد مع بعضها البعض، بدأت تؤدي إلى تضخم في التحديات التي يواجهها إقليم كردستان العراق على صعيد السياسة الداخلية والأمن.
منذ العام 1992، عملت كردستان العراق على الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية مع جمهورية إيران الإسلامية. فعندما بدأت الحرب الأهلية في الإقليم في أواخر العام 1993، لعبت إيران دورًا هامًا: في البداية عن طريق توجيه الحركة الإسلامية في كردستان وبعد ذلك عبر دعمها لجانبي الصراع، أي “الاتحاد الوطني الكردستاني” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”. وحافظت إيران على دعمها المزدوج حتى العام 1996، عندما استغلت علاقاتها لتشجيع الطرفين للحفاظ على التوازن السياسي. الأمر الذي أدى إلى فرض الاستقرار، مما سمح لطهران بالاستفادة من علاقاتها الاقتصادية مع كلا الطرفين وتجنب أي تهديدات محتملة يمكن للصراع أن يطرحها على الأمن القومي الإيراني.
مع تحول موازين القوى في العام 1996، انخرطت تركيا أيضًا بعمق في أمن إقليم كردستان العراق. وتجلى ذلك عبر عوامل عدّة أبرزها توفير الدعم العسكري البري والجوي لـ “الحزب الديمقراطي الكردستاني” في حربه ضد “الاتحاد الوطني الكردستاني” و”حزب العمال الكردستاني” في العام 1997. في الوقت نفسه، لعبت تركيا دورًا في حفظ السلام في منطقة جدلة الحدودية بين أربيل التي يسيطر عليها “الحزب الديمقراطي الكردستاني” ومحافظة السليمانية التي تسيطر عليها “الاتحاد الوطني الكردستاني”.
وعندما انتهت الحرب الأهلية في الإقليم في العام 1998 مع اتفاق واشنطن الذي أُبرم بوساطة أمريكية، اتفق الطرفان على إدارة شمال العراق سلميًا من خلال حكومة إقليم كردستان. بيد أن تركيا تواصل وجودها العسكري والاستخباراتي في الإقليم حتى الآن، مزعزعة الموقف الذي تمتعت به إيران كقوة إقليمية كبرى تؤثر على الأكراد من الستينيات وحتى الثمانينيات.
من جهة أخرى، مهّد إسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين الطريق أمام الأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية للانضمام إلى الدينامية المؤثرة على السياسات الاستراتيجية لإقليم كردستان العراق. إذ التزمت قطر والإمارات العربية المتحدة باستثمارات كبيرة تساهم في ازدهار قطاعات الطاقة والبنية التحتية في المنطقة، وذلك في جزء منه بغية الحصول على إمكانية أفضل للوصول إلى بغداد. من ناحية أخرى، أتت مشاركة المملكة العربية السعودية في الإقليم كجزء من السياسة الإقليمية لتطويق هياكل السلطة الشيعية ومواجهة النفوذ الإيراني في العراق، جزئيًا عن طريق حكومة إقليم كردستان.
في البداية ارتبطت المملكة العربية السعودية بجماعة “الإخوان المسلمين” في كردستان، ثم بـ “الحركة الإسلامية” في كردستان، التي كانت تتخذ من باكستان مقرًا لها، في العام 1988. وهكذا حاولت الرياض في البداية السيطرة على الحركة الجهادية الكردية، من خلال توفير الدعم المالي والأيديولوجي عبر أجهزتها الاستخباراتية، من أجل انتزاع هذا النفوذ من يد الايرانيين. بدأت العلاقة السعودية مع الأحزاب القومية الكردية في الفترة التي تلت حكم صدام حسين. فإطاحة الولايات المتحدة بالنظام السني القمعي الذي يهيمن عليه السنة في العراق تعني أن الرياض خسرت حارس البوابة الشرقية للقومية العربية والحاجز الذي صمد طويلًا في وجه انتشار النفوذ الشيعي في العالم العربي، لذا قاربت الرياض الحركات القومية الكردية على أنها بديل له.
وقد اثبت استيلاء تنظيم “داعش” على الموصل مؤخراً في عام 2014 ان إيران لديها تأثير ملموس في الشئون الكردية. إضافة إلى ذلك، عندما انتقل هجوم “داعش” من بغداد نحو كركوك وأربيل في آب/ أغسطس 2014، كانت إيران أول قوة إقليمية كبرى “تدافع عن” إقليم كردستان. إذ صرّح جنرال بالجيش الإيراني بأن “قاسم سليماني أنقذ إقليم كردستان من داعش”. هذا وأشاد رئيس إقليم كردستان ورئيس وزراؤه بهذا “الدعم الإيراني”، والذي قارنه الرئيس بدعم أنقرة غير الكافي.
عندما حل حيدر العبادي محل المالكي في رئاسة وزراء العراق، تعهد بزيادة المشاركة السنية في القطاعات الأمنية والعسكرية وبحل الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة مع إقليم كردستان. ولكن لم يتم إحراز تقدم بارز على أي من الجبهتين.
وقد أدى استمرار هذه السياسة إلى إيجاد بيئة لإنشاء تحالف إقليمي جديد من القادة الأكراد والعرب السنة في أربيل، وهو تطور لقي دعم الأردن وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. بعد غزو “داعش” لشمال غرب العراق، انتقلت العديد من الشخصيات السنية البارزة كما العديد من زعماء القبائل إلى أربيل، حيث كانوا يوجهون النقد إلى الحكومة العراقية. وقد بثت وسائل الإعلام الخليجية وجهات النظر العربية السنية من أربيل، وصنفت المدينة بين المدن الهامة ذات الأغلبية السنية مثل اسطنبول والدوحة وأبو ظبي وعمان. حتى إن الزعماء السنة المهددين بالمحاكمة من الحكومة المركزية العراقية اختاروا إما الإقامة في أربيل أو الفرار من العراق عبرها. وتشير جميع الأدلة ان العلاقة بين الاكراد والعرب السنة تزداد عمقا يوم بعد يوم.
الجدير بالذكر أن دول الخليج العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية، تشبه إقليم كردستان من حيث كونها دولًا تحكمها أسر حاكمة (وتمارس حكم الأقلية ونظام التسلسل الهرمي الاجتماعي) ويتم تمويلها إلى قدر كبير من الموارد الهيدروكربونية (أي النفط والغاز). إضافة إلى ذلك، يعتمد الجانبان على انتشار أيديولوجية السلفية المدخلية لقمع الأيديولوجيات المعارضة. انتشرت السلفية الكردستانية بشكل منتظم في كردستان بعد الربيع العربي في العام 2011. تدعم الرياض أربيل نظرًا إلى أنهما تتمتعان بالعديد من القواسم المشتركة. من خلال دعم أربيل، لم تظهر المملكة العربية السعودية رغبتها فقط في إنشاء نظام حكم الأقلية القائم على الحكم الأسري مماثل لحكمها في المنطقة ولكن أيضًا لخلق فجوة في العراق بغية عزل إيران عن سوريا.
أما على الصعيد السياسي، إذا بسطت المملكة العربية السعودية وتركيا سيطرتهما على أربيل، ستتمكنان من فرض هذه السيطرة ليس فقط على إقليم كردستان، بل أيضًا على محافظتي الأنبار والموصل في العراق، مما يساعد على عزل تأثير المرجعيات الشيعية العراقية. في نهاية المطاف، يمكن أن تشد المملكة العربية السعودية وتركيا وثاق شمال العراق ووسطه وغربه تحت سيطرة تحالف 6+2 (أي دول الخليج العربي الست بالإضافة إلى الأردن وتركيا).
الأمر الذي يمكن أن يوفر طريقًا آمنًا لنقل الطاقة إلى تركيا عبر الأردن والعراق. إلى جانب ذلك، من شأنه أن يعزل النظام الإيراني عن الشيعة في وسط العراق. هذا واندلع القتال بين مقاتلي “البشمركة” الكردية والميليشيات الشيعية في المنطقة المتنازع عليها من كردستان العراق حيث تعيش غالبية كردية بين الأقليات العربية السنية والتركمانية. وكانت هذه الاشتباكات بمثابة محاولة من القوى الشيعية للسيطرة على الممر الذي يربط إيران بسوريا والذي يمر بالعراق.
في الوقت عينه، ترى إيران ان إقليم كردستان يحتل موقعًا جيواستراتيجيًا هامًا جدًا، وتحاول إيران استخدام إقليم كردستان، فضلًا عن الجاليات العربية والشيعية التركمانية الأخرى، بهدف حشد الدعم، وفي نهاية المطاف توفير ممرٍ لنقل المعدات اللوجستية العسكرية والطاقة الى اللاذقية.
يُذكر أن هذا التركيز المتزايد للقوى الإقليمية على خطوط كردستان الأمامية مع “داعش” كان له تأثيرًا ملحوظًا على الاستقرار الكردستاني الداخلي. إذ إن مكافحة “داعش” والاجتماعات المستمرة بين رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني ووفود رفيعة المستوى من الولايات المتحدة وإيران وتركيا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي أدت إلى تهميش العملية الديمقراطية في الإقليم.
في 19 آب/ أغسطس 2015، انتهت ولاية بارزاني الممتدة في رئاسة إقليم كردستان وحاولت كتلة من أربعة أحزاب في المنطقة، تشمل حزبين علمانيين وحزبين إسلاميين، إخراجه من الرئاسة. لكن هذا الأخير وحزبه، أي “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، لم يخضعا وبدلًا من ذلك اتهما الشيعة وإيران بتشجيع الانقلاب. في الوقت نفسه، أعلنت وسائل الإعلام التابعة لـ “الحزب الديمقراطي الكردستاني” أن إيران تدعم تمديد ولاية بارزاني الرئاسية إلى حين الانتخابات البرلمانية الكردستانية المقبلة في العام 2017. وعندما اشترط معارضو بارزاني الحد من صلاحيات الرئيس التنفيذية واسعة النطاق من أجل التمديد له، رفض “الحزب الديمقراطي الكردستاني” هذا الشرط. مهد بقاء بارزاني في السلطة الطريق لسياسة كردية ذات توجه سني على نحو متزايد.
فبعد وصول روسيا إلى المنطقة وأصبحت المنافسة الإقليمية أقوى، روسيا استغلت حادثة إسقاط طائرتها في سوريا من قبل مقاتلات تركية لزيادة قوتها السياسية ووجودها العسكري في المنطقة من جهة، ووجهت من جهة أخرى رسالة تهديد إلى تركيا والمملكة العربية السعودية عبر الإعراب عن استعدادها لاستخدام البطاقة الكردية ودعم “حزب الاتحاد الديمقراطي” في سوريا. حزب الاتحاد الديمقراطي هو حزب كردي محترم ومعترف به على نطاق واسع روّج لاسمه بشكل بارز في أوروبا والغرب، وخصوصًا بعد مقاومة الأكراد الشرسة لتنظيم “داعش” في نهاية العام 2014 في كوباني. يُذكر أن “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة” ، فرضا نفسيهما كحليف قوي للتحالف ضد “داعش” وكأكثر قوة برية فاعلية في محاربة الجماعات الإرهابية في سوريا.
في المقابل, الكتلة السنية تعتمد منهجية هجومية. بدأت القوى السنية بدعم الجماعات التركمانية الإسلامية المتطرفة في الجزء الأوسط من شمال سوريا بغية منع اندماج مقاطعة عفرين الكردية مع المقاطعتين السوريتين الأخرتين اللتين يسيطر عليهما الأكراد، وهما الجزيرة وكوباني. في بيان صادر في كانون الأول/ ديسمبر 2015، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن 15000 من الجنود والدبابات التركية مستعدة لمهاجمة “حزب الاتحاد الديمقراطي” في سوريا. ومن شأن الاتحاد الجغرافي لهذه المقاطعات من خلال سيطرة الأغلبية العربية أن يضعف بشكل كبير الامتداد الاستراتيجي لتركيا والقوى العربية ويمكّن في الوقت عينه “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي السوري والقوات المسلحة الكردية السورية، و”وحدات حماية الشعب”. لنجاح الأكراد في سوريا أو فشلهم تداعيات على سياسات أربيل وموقعها الاستراتيجي: فصعود القوى الكردية السورية سيكبّل يدي أربيل في الصراع على السلطة في المنطقة، ولاسيما في ضوء نزاع الاستراتيجي القائم بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”.
هذا ونشرت تركيا أيضًا قوات ودبابات في شمال العراق وإقليم كردستان من دون موافقة الحكومة العراقية. فوفقًا لتقارير وسائل الإعلام، تم نشر 1200 جندي ومئات الدبابات والمركبات العسكرية المدرعة التركية بناءً على اتفاق مع حكومة إقليم كردستان، في ظل حجة المشاركة في عملية تحرير الموصل. ولكن تركيا لا تزال ترى الموصل وشمال العراق على أنهما شكلان “ولاية الموصل” التابعة للإمبراطورية العثمانية، وكثيرًا ما تلمح إلى مصلحتها في إعادة دمج المنطقة مع تركيا.
تحدث هذه التحركات العسكرية التركية بالتزامن مع جولة بارزاني لدول الخليج العربي، والتي لم يتم إطلاع لا البرلمان الكردستان ولا الأحزاب السياسية على تفاصيلها جيدًا. وعلى الرغم من عدم الكشف عن أي معلومات رسمية حول اجتماع بارزاني بولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أو الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، أفادت عدة وسائل إعلام عراقية مستقلة ومصدر مطلع من داخل “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بأن بارزاني قد نجح في إقناع حاكم دولة الإمارات العربية المتحدة بتأجيل دفع مبلغ 2 مليار دولار المتوجب على وزارة الموارد الطبيعية في حكومة إقليم كردستان لشركة “دانة غاز” التي تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرًا لها، عقب قرار صدر مؤخرًا عن محكمة لندن للتحكيم الدولي.
أما في المملكة العربية السعودية، فكان الوضع مختلفًا، إذ رحب الملك والأمراء والمسؤولون العسكريون ببارزاني بطريقة غير اعتيادية، وربما كان ذلك في محاولة للإشارة إلى القوى الإقليمية بأن إقليم كردستان قد انضم إلى الكتلة السنية. ووفقًا لبعض المصادر، طلب الملك سلمان من بارزاني دعم منطقة حكم ذاتي سنية في العراق وتمرير مشروع قانون الحرس الوطني من قبل البرلمان العراقي، والذي سيسمح للعرب السنة في العراق بتنظيم قوة مسلحة تضم 100 ألف رجل، على غرار الميليشيات الشيعية، تحت السيطرة المباشرة لمحافظ المحافظات بدلًا من الحكومة المركزية في بغداد. بناءً على المعلومات المتوفرة، قد يأمل السعوديون باستخدام الأكراد مباشرة لمحاربة الميليشيات الشيعية والحد من النفوذ الإيراني في شمال العراق وسوريا. كما وأكد الملك سلمان لبارزاني على أنه إذا نجح ذلك، ستدعم الرياض حكومة إقليم كردستان ماليًا، للقضاء على أي حاجة إلى الاعتماد على بغداد.
في هذا السياق، تظهر معادلة جديدة تضع أربيل داخل الكتلة السنية. يمكن لهذا التحول أن يغير موازين القوى في المنطقة، ولكنه من الناحية العملية يشكل خطرًا كبيرًا على مشروع إقامة دولة كردية مستقلة وعلى الأمن القومي الكردي، وخصوصًا عندما تجعل القوى الإقليمية من إقليم كردستان ساحة لتسوية خلافاتها. على الرغم من البيان الصادر عن رئاسة إقليم كردستان مؤخرًا والذي ينص على أن إقليم كردستان لن يكون جزءًا من أي من الكتل السنية أو الشيعية، إلا أن زيارة الرئيس لمنطقة الخليج تشير إلى نتيجة مختلفة، تشكل خطرًا على المصالح كما تهدد بانتقام من القوى الشيعية في المنطقة.
فرزند شيركو، هو باحث استراتيجي، ومعلق سياسيي، ومدير مشروع اجتثاث التطرف في إقليم كردستان العراق.