صانع القرار و ألمنافع المتوخاة من إكمال سدّ مكحول (٣-٣)
معرفة مكامن القوة والمنافع المتوخاة من إكمال هذا السد هو أمر صعب، مع إن المعلومات المتوفرة تركز كلها على أهمية المشروع، وكبره، حيث يوصف على انه الأكبر على الإطلاق بعد عام ٢٠٠٣، لكن وبنفس الوقت، الحديث يجري حول عموميات وتكرار لما عرف سابقاً عن هذا السد.
في الحقيقة، مشروع سد محكول هو مشروع قديم، و لا يعود للعام ٢٠٠ كما يُشاع، بل قد تعود فكرته إلى مائة عام مضت والى ألعهد الملكي[1]. وهي مبنية على أساس الاستفادة من جغرافيا المنطقة وبالأخص تواجد سلسلة جبال مكحول. وتشير المعلومات المتوفرة بأن مؤسسة “تكنو بروم” السوفيتية (وقتها)، هي من قدمت لهيأه التخطيط العراقية (حاليا وزارة التخطيط) دراسة عن موقع السد وطاقته الخزنية، ضمن عمل شمل أيضا سدود أخرى مثل سد الفتحة.[2] وفي تأكيد من السيد عون ذياب، يقول إن أعمال أسس السد انجز منها ١٥٪ ، لكن احتلال العراق للكويت عام ١٩٩٠ أوقف العمل بالمشروع.[3] ويشير السيد ذياب، ويبدو انه مؤيد لإكمال السد، بأن شركات الوزارة ستتولى عملية إكمال الأعمال الترابية، أما محطة التوليد الكهربائية والأعمال الأخرى فستحتاج إلى شركات دولية متخصصة[4].
والأدهى من كل ما سبق، إن وزارة الموارد العراقية في حقيقة الأمر، لم تدرج السد ضمن خططها منذ عام ٢٠٠٣، وهذا ما اكده الوزير السابق الجنابي في مقابلة تلفزيونية، وذكر في حديثه إن كل من الوزراء السابقين ـ الدكتور لطيف رشيد، و الدكتور مهند السعدي، قاما بإلغاء السد من قائمة المشاريع، وكذلك فعل الوزير الذي جاء بعدهم السيد محسن الشمري، وصولا للسيد الجنابي. [5] وسبب عدم أدراج هذا السد الكبير او سدود جديدة، يعود بالأساس بان العراق لديه خزانات تعمل في اقل من طاقتها ألتصميميه، وليس بحاجة لخزانات جديدة. في منتصف عام ٢٠١٨، أوضح رئيس الوزراء السابق، السيد حيدر العبادي، هذا ايضاً وقال إن ”البلد لا يحتاج إلى بناء سدود، لأن السدود التي لدينا لم تصل إلى مستوى الامتلاء أصلا.[6]
والرجل محق والإشارة هنا للسدود الكبيرة التي تشيد لغرض خلق خزانات للمياه، وهذا هو الحال مع سد مكحول. وهو عينه ما أقرته استراتيجية (SWLRI). يخاطب السيد العبادي الإعلام والجمهور موضحاً لو كان لدينا فائض في المياه، لحق لكم وقتها الحديث عن الحاجة لبناء سدود جديدة[7].
,وتشير التقديرات ان العراق قد خسر ٣٠ في المائة من تدفق المياه في نهري دجلة والفرات خلال العقود السابقة، وان المتوقع هو ازدياد هذه الخسارة لتصل إلى ٦٠ في المائة[8]. واستمرار انخفاض الواردات هو حقيقة لا يجدر بصانع القرار أن يتجاهلها.
وفي تموز من عام ٢٠٢١ ،أعلنت منظمة ليوان للثقافة والتنمية، وهي منظمة غير حكومية عراقية، بانها وبالشراكة مع المنظمة الدولية للهجرة (IOM)ستقوم بتوثيق وتحليل التأثير البشري المتوقع لبناء السد على المجتمعات في محافظتي كركوك وصلاح الدين، بالإضافة إلى تأثيره على المشهد الثقافي والجغرافي[9]. ولاحقاً، خلصت الدراسة هذه إلى إن المجتمعات المحلية ستتأثر وبشكل كبير في حال إكمال بناء السد.
وفي حزيران من عام ٢٠٢٢ أصدرت منظمة “إنقاذ نهر دجلة” ومقرها امستردام -هولندا، وبالشراكة مع منظمة “حماة دجلة” العراقية، تقرير مشتركا عن اثر سد مكحول عنوانه “سد مكحول وأثره البيئي والثقافي والاجتماعي“. استعرض هذا التقرير والذي تم تداوله بشكل واسع في صفحات التواصل الاجتماعي[10]، اهم الأثآر البيئية والثقافية والاجتماعية لهذا السد. ويستنتج التقرير بان سد مكحول “سيضع النظم البيئية والبيئة المحيطة به، في حالة من عدم التوازن، من خلال إغراق مناطق أعالي النهر وتقليل تدفق المياه في اتجاه مجرى النهر ، سيؤثر ذلك سلبًا على جودة المياه. كما أنه سيقلل من التنوع البيولوجي على طول مجرى نهر دجلة وداخل الأهوار في جنوب العراق”[11]. وفي الحقيقة إن احتجاز مزيد من مياه نهر دجلة في أعالي النهر سينتج عنه حتما ازدياد كارثة العطش والجفاف في مناطق اسفل النهر، جنوب العراق و اهواره.
علاوة على الأثر البيئي الخطير، يهدد السد في خطر ثقافي جسيم يتمثل بإتلاف أجزاء من موقع التراث العالمي لمدينة آشور ويضع مدينة ”كار تيكولتي نينورتا“ بأكملها تحت الماء، كما وانه سيقضي على أكثر من 250 موقعًا أثريًا [12]. كما أن سد مكحول سيؤدي إلى فقدان سبل العيش وتشريد أكثر من 100000 شخص من 40 مجتمعاً محلياً في محافظتي صلاح الدين وكركوك ، عاد معظمهم مؤخراً لإعادة بناء حياتهم، بعد سنوات من النزوح بسبب احتلال داعش مناطقهم.[13]
والتقرير يستنتج بانه يمكن اعتبار التكلفة المستقبلية لسد مكحول أعلى بكثير من الفوائد المحتملة للسد على الأرض. ذلك لان تكلفة إنشاءه، وبالإضافة إلى الكلف المباشرة للعمل، يجب ان تتضمن حساب تعويضات مجزية وبناء وحدات سكنية، لمن سيتم تهجريهم، وكذلك يجب التفكير بكلف عمليات صيانة مستمرة على السد.
الحكومة العراقية تقرّ بحقيقة ان بناء هذا السد يواجه مشكلة بنيوية تتعلق بطبيعة جيولوجيا الأرض التي يقام عليها والمشابهة لتلك التي بني عليها سد الموصل[14]. وهو ما يعني إن العراق بصدد بناء سد فاشل يتطلب صيانة دورية ومكلفة. وهذا يذكرنا بكلف صيانة سد الموصل وبالحقيقة المرة بان عمليات الصيانة هذه يجب ان تستمر في المستقبل. ولإعطاء فكرة اكثر فان العراق في عام ٢٠١٦ كلفة شركة “تريفي” الإيطالية بعملية صيانة سد الموصل بكلفة وصلت إلى ٢ مليار دولار.[15] وبالعودة لذلك الوقت تسبب النقاش حول احتمال انهيار السد، إلى هلع وخلاف سياسي، وتدخل دولي. ولحسم الجدل، تدخل حينها رجل الدين واسع النفوذ،السيد مقتدى الصدر، ليسحب ملف الصيانة من بين يدي وزير الموارد المائية، والذي كان محسوبا بشكل أو باخر على التيار الصدري، ليحيله إلى مجلس الوزراء.
عمليات صيانة من هذا النوع، غير مستدامة و تسبب حرج سياسي كبير وكلف مالية اكبر!
وعودة لسد مكحول، وبعد حملات المعارضة، يظهر تحول تكتيكي في موقف صانع القرار، وعلى سبيل المثال، نشر إعلام وزارة الموارد المائية في الأول من تموز ٢٠٢٢ خبراً عن ترأس السيد وزير الموارد المائية، لاجتماع خاص عن سد مكحول مع “اللجنة التوجيهية الاستشارية للسد” ولا تتوفر معلومات مكتوبة عن من هم أعضاء هذه اللجنة وما هي مهامها. ويسترسل الخبر موضحا بأن اللجنة قدمت شرح تفصيلي عن ما تمخض من زيارتها إلى “ائتلاف الشركة الصربية البريطانية” والمتعاقد معها، وفقا لهذا الخبر، لتقديم التصاميم التخطيطية التفصيلية والمسؤولة عن إجراء التحريات.[16] ثم يشير إلى ان الشركة ألاستشارية، ستقوم بداية شهر تموز الحالي بالتحريات الجيولوجية والفيزياوية والزلزالية والنموذج الفيزياوي وتقديم الحلول والمقترحات للمحافظة على الأثآر ومنها قلعة آشور[17].
وليس هنالك ذكر لاسم لهذه الشركة ولا للعقد الذي يحكم عملها مع الوزارة، كلفته، طبيعته ومدته وغيرها من المعلومات المهمة. ثم ان الخبر يتحدث عن شركة استشارية وتحريات، بينما اشارت الوزارة نفسها وعلى لسان اكثر من مسؤول بانها باشرت العمل الفعلي على السد قبل اكثر من عام، تحديدا في اوائل عام ٢٠٢١ وان الحديث وقتها عن دراسات وإمكانات وطنية للإشراف والتصميم والتنفيذ[18]
نعم، من الصعب التعرف على مصادر قوة لهذا المشروع، لكن الاستنتاج الأكثر قرباً للحقيقة هو ان صانع القرار العراقي اليوم، يبحث عن طوق نجاة، من مشكلة عويصة ومستعصية. فهم، والمفاوض العراقي يواجهون صد وتجاهل من دول الجوار خصوصا تركيا وأيران اللتان تستمران بخططهم لبناء السدود ومشاريع تحويل المياه التي يدفع ثمنها العراق كونه دولة مصب[19]. . هم بحاجة للتهرب من هذا الحرج و ايجاد “حل”، وان كان هذا الحل غير مدروس ومرتجل.
وحيث تتعاظم مشاكل التغير المناخي، قلة تساقط الأمطار والتصحر، بسرعة في العراق والمنطقة بشكل عام. بدلاً من اختيار حلول مدروسة وصعبة، يحاكي صانع القرار اليوم الرأي الشائع بين جمهور واسع، بل وحتى بعض الأكاديميين والمختصين، بان بناء سدود كبيرة هو الحل. وهو الأمر الذي اختلف معه جملة وتفصيلا ولكل ما سبق.
استمرار بناء السدود الكبيرة ظاهرة تشمل المنطقة و العراق أيضاً. وتخطط الحكومة المركزية وحكومة اقليم كوردستان-العراق، إلى بناء المزيد من السدود الكبيرة في الأعوام القادمة. وبدلا من أن يؤسس صانع القرار العراقي، موقفاً في معارضة بناء السدود في دول المنبع على أساس موضوعي، قاعدته هي رفض المزيد من السدود الكبيرة المدمرة لإيكولوجيا ما بين النهرين، بدلا من ذلك، فضل الهروب إلى أمام.
نعم، في الحالة العراقية، بناء سدود الكبيرة هو عملية هروب إلى أمام، وهدر للأموال، وهذا إن اختلف البعض حوله، فلن يكون محط الخلاف هو سد مكحول!
هذه دعوة لوقف بناء السد وتحويل الموارد لما أُدرج من أولويات في الاستراتيجية (SWLRI) والى أولويات حقيقية تتعلق بحماية الأنهار من مصادر التلوث ومن التجاوزات المتعددة. كذلك إنشاء بنى تحتية لعمليات حصاد الأمطار وتدوير المياه المستخدمة ومساعدة الفلاح العراقي على الاستجابة لمتطلبات الواقع الجديد. بلاد الرافدين لم تعد مكان للزراعة بالسيح (طريقة الري التي درج عليها العراقي منذ أجداده السومريين)،آن الأوان لتبني البديل.
الأمر عاجل ومستعجل، وبحاجة لقرار شجاع، يتراجع خطوة، ليوقف السد ومعه الهدر، وليمضي خطوات إلى أمام.
انتهى
=======================
اسماعيل داود
كتب في تموز ٢٠٢٢
للتواصل مع الكاتب: ismaeel.dawood(at)gmail.com
[1] السيد جمال محسن المستشار الفني لوزارة الموارد، قناة الشرقية، برنامج قيل وقال، سد مكحول التوفير ام التبذير، https://www.youtube.com/watch?v=TQMi5fI0nwE
[2] الدكتور مدالله محسن، سد الفتحة المقترح،الواقع الجغرافي وأثرة على الواقع الحضري لمدينة الشرقاط، مجلة ديالى للبحوث العلمية والتربوية، مج ١ جزء ١ ،عام ٢٠٠٠ .
[3] ارجع للمصدر المشار له في الهامش رقم ٥
[4] ارجع للمصدر المشار له في الهامش رقم ٥
[5] السيد محمود الجنابي، قناة الشرقية، برنامج قيل وقال، سد مكحول التوفير ام التبذير، https://www.youtube.com/watch?v=TQMi5fI0nwE
[6] صحيفة الشرق الاوسط، رقم العدد [ 14435] ٦ تموز ٢٠١٨
https://aawsat.com/home/article/1291396/العبادي-يتهم-تركيا-باستغلال-سد-«إليسو»-سياسياً
[7] المصدر اعلاه في الهامش رقم ٦
[8] VonLossow,Tobias.(2018).Morethaninfrastructures:PolicyBriefwaterchallengesinIraq. https://ia801804.us.archive.org/32/items/lossow-pb-psi-water-challenges-iraq/Lossow%20- %20PB_PSI_water_challenges_Iraq.pdf
[9] تصريح صفي منشور على موقع المنظمة في تاريخ ١٨ ٧٢٠٢١
https://liwaniraq.org/f/press-release-on-makhoul-dam-project
[10] حسب المسؤول عن حملة الترويج للتقرير فان المشاهدات للخبر تجاوزت اثنين مليون مشاهدة، مقابلة خاصة في تموز ٢٠٢٢
[11] تقرير منظمة انقاذ نهر دجلة و منظمة حماة دجلة العراقية”سد مكحول وأثره البيئي والثقافي والاجتماعي” منشور على صفحة المنظمة ، الرابط : https://www.savethetigris.org/wp-content/uploads/2022/07/The_Makhoul_Dam_Report-2.pdf “
[12]المصدر اعلاه
[13]المصدر اعلاه
[14] انظر موضوع الاندبندنت ومقابلة السيد عون ذياب المذكورة في القسم الثاني، الهامش ١٦
[15]صحيفة المدى، العدد ٣٥٦٥ والمنشور على الموقع التالي: https://almadapaper.net/view.php?cat=144172
[16]الموقع الخاص بوزارة الموارد المائية ٢ تموز ٢٠٢٢ ونشر على صفحة الفيسبوك الخاصة بالسد، رابط : https://it-it.facebook.com/people/%D8%A3%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%B3%D8%AF-%D9%85%D9%83%D8%AD%D9%88%D9%84/100067775876484/
[17]المصدر اعلاه
[18] ارجع لخبر حفل وضع الاساس للسد، المذكور اعلاه في هذا الموضوع الهامش رقم ١٩
[19] للمزيد حول المفاوض العراقي والعلاقة مع دول الجوار، اطلع على كتاب المفاوض العراقي، ٢٠١٧