بغداد نائمة وسكانها ساهرون بأحاديث صباحية عن داعش
نقاش| خلود رمزي
مع غروب الشمس واختفاء آخر خيوط الضوء تبدو بغداد موحشة وخالية من الحركة إلا من بعض المارة الذين يسيرون بين الأزقة عائدين إلى بيوتهم قبل موعد حظر التجوال.
الظروف التي تمر بها بغداد اليوم تشبه إلى حد كبير أوضاعها عامي 2003 و 1991 ، نقاط التفتيش تملأ الشوارع والخوف سمة عامة بين السكان باختلاف مذاهبهم وأديانهم والشائعات تنتشر بين الأهالي أسرع من ضوء البرق في سماء مظلمة.
القنصليات والسفارات العربية والأجنبية الموجودة داخل وخارج المنطقة الخضراء بما فيها السفارة الأميركية التي تمثل أكبر سفارة للولايات المتحدة في العالم بدأت تغلق أبوابها منذ الأسبوع الماضي ومنحت موظفيها عطلة مفاجئة إلى إشعار آخر وبعضها أبقى على الكادر المحلي بعدما غادر الأجانب من المكان لكنها أوقفت استلام طلبات الفيزا.
مثتى عبد الرحمن الذي يعمل في إحدى السفارات الغربية في بغداد قال ” منحونا إجازة وغادر الجميع إلى بلادهم إذ قالوا إن الأوضاع ستسوء أكثر ولا أعتقد إن السفارة ستفتح أبوابها مجدداً قبل نهاية الأزمة إذ كتبنا ورقة على الباب الرئيس أكدنا فيه إن السفارة مغلقة إلى إشعار آخر.
المعهد الفرنسي في بغداد والذي صمم على مواصلة عمله حتى الأيام الأخيرة الماضية أرسل الأثنين صباحاً الموافق 16 حزيران (مايو) رسالة إلى جميع الصحفيين ألغى فيها جميع نشاطاته إلى إشعار آخر وأغلق أبوابه هو الآخر.
الحكومة العراقية اتخذت قراراً بحجب مواقع الفيسبوك واليوتيوب وتويتر بتاريخ 13 حزيران (يونيو) ثم قامت لاحقاً بقطع خدمة الانترنت عن بغداد والأنبار وكربلاء وعدد من المدن العراقية، وقدمت مبررات تتعلق بالضرورات الأمنية لكن مقربين من أصحاب القرار أكدوا إن القرار تم اتخاذه بسبب قيام تنظيم داعش بنشر مقاطع فيديو على المواقع المذكورة عن عمليات الإعدامات التي قام بها في الموصل وتكريت مااعتبرته الحكومة العراقية نوعاً من محاولات كسر المعنويات لدى الأهالي.
المشكلة الأخرى في هذه المواقع أنها باتت منبراً لتغذية الطائفية، فالكثيرون من مرتاديها من المثقفين والصحفيين وحملة الشهادات والشخصيات العامة يطلقون آرائهم وتغريداتهم طبقاً لانتمائهم الطائفي حتى إن بعضهم بات يستخدم كلمات نابية لوصف الطرف الآخر والدخول في معارك كلامية تتسبب في إحباط المعتدلين وهم قليلون على تلك المواقع.
الصحفيون كانوا أكثر المتضررين من قرار إيقاف خدمة الأنترنت واستعان معظمهم بقراصنة الانترنت للارتباط بشبكات أخرى غير الشبكات الرئيسية ليتمكنوا من إرسال موادهم بطرق مختلفة فيما فتح الكثيرون منهم مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام موقع “proxy” لمتابعة الأحداث واستخدم آخرون هواتفهم المحمولة لاستخدام الأنترنت رغم كلفته العالية.
يقول الصحفي مازن نعمة الذي يعمل مراسلاً لإحدى الصحف العربية لـ”نقاش” إنه استعان بخبير متخصص في الانترنت وكان يبقى معه لساعات طويلة يومياً ليتمكن من فتح الانترنت عن طريق شبكات أخرى لكن النتيجة كانت إن الانترنت ضعيف ومتقطع ولم يتمكن من تغطية الكثير من الأحداث المهمة لأنها كانت تصل متأخرة إلى صحيفته”.
فتوى المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني بضرورة التطوع لمحاربة داعش دفعت آلاف الشباب البغداديين إلى التوجه إلى مراكز التطوع لاسيما أولئك العاطلين عن العمل إذ اعتبروا الفتوى فرضاً شرعياً عليهم.
الفضائيات المحلية التابعة للأحزاب الشيعية عرضت لقاءات مع متطوعين قادمين من السويد والنرويج ودول أخرى وصلوا إلى بغداد والنجف واستلموا اسلحتهم بعدما سجلوا أسمائهم في مراكز التطوع التي ستخضعهم لتدريب مدته أسبوعين قبل إرسالهم إلى المدن التي تسيطر عليها داعش.
أما المظاهر المسلحة فباتت ميزة لبغداد حيث تضاعفت نقاط التفتيش لكنها لا تمثل القوات الحكومية هذه المرة بل تضم قوات مشتركة من تنظيم عصائب أهل الحق وقوات بدر والتيار الصدري وهي تقوم بتفتيش السيارات وطلب هويات الركاب في بعض الأحيان وعند مرور سيارة تحمل مسلحين تكتفي النقاط بسؤالها عن المنطقة التي جاءت منها ووجهتها لكنها لا تعترض بتاتاً على حمل السلاح الذي بات ظاهرة عامة بين السكان المدنيين.
العائلات البغدادية تبضّعت أنواعاً معينة من المواد الغذائية كعادتها في الظروف المماثلة وباتت المنازل تحوي كميات لا بأس بها من الرز والدقيق والزيت والسكر وغيرها من المواد والتي ارتفعت أسعارها بشكل سريع إلى أضعاف ما كانت عليه قبل سقوط الموصل بيد داعش.
ارتفاع الأسعار جاء بسبب انقطاع التموين الغذائي القادم من كردستان والذي تعتمد عليه بغداد وباقي مدن الوسط والجنوب بعد استيلاء مسلحي داعش على الطرق الخارجية التي تربط بغداد مع الموصل ودهوك المدينة الكردستانية التي تضم أكبر معبر حدودي مع تركيا هو معبر “إبراهيم الخليل” والذي تدخل منه يومياً مئآت الشاحنات المحمّلة بالمواد الغذائية والبضائع المختلفة.
علي سعدون الرجل الستيني الذي يقطن في حي الحرية الشعبي وهو من الأحياء الشيعية التي تقع في جانب الكرخ قال لـ”نقاش” إن ارتفاع الأسعار لا يقتصر على المواد الغذائية بل امتد إلى جميع المستلزمات الضرورية وإنه اشترى قنينة الغاز المخصص للطبخ بسعر (40 ألف دينار عراقي) بعدما كان سعرها قبل إسبوع واحد فقط ستة آلاف دينار.
مقاهي بغداد وأحيائها السكنية تتداول أحاديثاً يومية والتوقعات تتفاوت بين السكان من متفائل بنهاية قريبة للأزمة إلى متشائم من الأحداث يتوقع أياماً أصعب لكن جميعهم يتفقون بأنهم لا يستطيعون التنبؤ بما قد يحصل فكل شيئ ممكن الحدوث ومعظمهم يكمل حديثه داخل المنزل في سهرات تستمر حتى الصباح.
جميع هذه الفوضى والمظاهر الحياتية مرت بها بغداد في وقت سابق الأولى كانت حينما أعدّت الولايات المتحدة جيوشاً ضخمة لمحاربة العراق بعد غزو صدام حسين للكويت عام 1991 والثانية حينما أصرّت أميركا على إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 والفرق الوحيد بين صورتي الأمس وصور اليوم هو عدم وجود الاحتقان المذهبي الذي تعيشه بغداد اليوم والذي قد ينفجر في أية لحظة ويتطور إلى حرب أهلية تحرق الأخضر مع اليابس.