سكان الموصل دروع بشرية لـ«داعش»
قبل عشرة أيام استعدت عائشة الحيالي للرحيل مع أولادها إلى بغداد، لكنها حتى اليوم تجلس في منزلها إذ بدأت تفقد الأمل في إمكانية الفرار من مدينة الموصل أو “السجن الكبير” كما باتت تطلقه عليها.
الحيالي أرملة ضابط شرطة قتله عناصر “داعش” في حزيران (يونيو) الماضي وتريد أن تبعد أولادها الثلاثة عن خطر العمليات العسكرية المرتقبة لتحرير نينوى، فهي تدرك مثل الكثيرين من سكان المدينة استحالة تجنيب المدنيين ويلات القتال، لكن قرارها جاء متأخراً، إذ صدرت تعليمات جديدة تحظر السفر من أرض “دولة الخلافة الإسلامية” إلاّ في حالات محدودة جداً.
لم تصدق المرأة في البداية ما سمعته من الجيران بأن السفر ممنوع، حتى جاء ابنها بمنشور وُزع في أحد الجوامع، وهو يضم تعليمات جديدة شكلت صدمة لها.
“يُمنع السفر من دار الإسلام إلى دار الكفر أي (المناطق الخارجة عن سيطرة داعش) إلاّ للضرورة القصوى وفي الحالات المرضية التي لا يمكن علاجها في مشافي الموصل، وبالنسبة للمتقاعدين لغرض تسلم رواتبهم” هذا أبرز ما تضمنه المنشور.
أما اسوأ خبر سمعته المرأة فهو هو عدم السماح باصطحاب العائلات من قبل الأشخاص المسموح لهم بالسفر.
الحقيقة هذا الإجراء تم تطبيقه في وقت سابق، وعاد التنظيم لينفذه مجدداً لكن بجدية أكبر هذه المرة تزامناً مع انطلاق عمليات تحرير مدينة تكريت التي تنفذها القوات العراقية والحشد الشعبي.
الجديد أيضاً إن تنظيم “داعش” شكّل لجنة من بعض عناصره لتقدير مدى حاجة المرضى للعلاج خارج الموصل، وبهذا قطع الطريق أمام الأطباء الموصليين الذين كانوا يمنحون التقارير لعشرات الأشخاص الأصحاء يومياً مراعاة للظروف الحالية، وهو ما كشفه لـ”نقاش” الطبيب محمد الزبيدي الذي يعمل في إحدى مستشفيات الموصل.
وعلى غير العادة، يعمُّ الهدوء منطقة المجموعة الثقافية حيث تكثر مكاتب خدمات النقل، في أول مظاهر تطبيق نتائج الإجراءات الجديدة التي وصلت إلى حد غلق هذه المكاتب.
حسين ذنون أحد سائقي سيارات الأجرة ومن المطلعين على هذا الملف فهو يعمل في نقل المسافرين منذ ثمانية أشهر يقول “معظم مكاتب النقل كانت تزّور تقارير طبية وموافقات باسم “داعش” وتبيعها على المسافرين بالتعاون مع بعض عناصر التنظيم، وعندما وصل الخبر إلى زعماء التنظيم تم تشديد الإجرءات وصوُرّت على أنها إجراءات عقابية، لكن الحقيقة إنها محاولة لمنع مغادرة المواطنين ليكونوا وقوداً للحرب القادمة في الموصل.
عائشة الحيالي طرقت جميع الأبواب دون جدوى ففي المشافي والعيادات اصطدمت باللجنة الطبية التي شكلها التنظيم والتي لا تتساهل أبداً، وعند المرور على المكاتب وجدتها مغلقة، لذا فكرت أن تجازف بالسفر على ظهر إحدى الشاحنات على غرار ما فعل أحد أقربائها، وحتى هذا الخيار الشاق لم يكن ممكناً بالنسبة للعائلة، فالرجل قد يتذرع بأنه مساعد للسائق، بينما وجود إمرأة يجعل الأمر مكشوفاً.
مهما شدد التنظيم من قبضته فالمجال يبقى مفتوحاً على الرشى والوساطات، فالسائق حسين ذنون من القلة الذين يجازفون بالسفر إلى بغداد رغم المخاطر الكثيرة التي تضاعفت اليوم فهو يتحايل على نقاط التفتيش ويعرض أحياناً أوراقاً مزّورة أو منتهية الصلاحية، خاصة وإن العناصر الذين يدققون أوراق المسافرين لا يمتلكون الخبرة الكافية.
عندما عادت الحيالي بعد إسبوع إلى مكاتب السفر، لم يكن شيئاً قد تغيّر سوى إن سائقاً عرض عليها خدماته مقابل مبالغ عالية جداً.
“أُريد مليون دينار عن كل فرد، ما يعني ثلاثة أضعاف تكلفة النقل المُتعارف عليها قبل صدور تطبيق الإجراءات الأخيرة، ويجب أن تعرفي إن الطريق طويل وشاق” قال السائق.
وعندما استفسرت عن مخاطر الطريق أجابها “استطيع أن أضمن عدم تعرض أي مجموعة مسلحة لكم سواء من داعش او الميلشيات المسلحة الأخرى لكنني لا أضمن الطائرات.
سكان الموصل يراقبون التغييرات التي تحدث في مدينتهم وما حولها، ليضعوها في ميزان موعد بدء الهجوم على نينوى لطرد داعش، ولا شك أنهم فهموا منع السفر على إنه نية مبيّتة لجعلهم دروعاً بشرية، سيما مع عدم وجود أية مؤشرات بأن التنظيم ينوي تحييد المدنيين أو فتح ممرات لخروج العائلات من المدينة.
بالنتيجة ما يزيد على مليون ونصف المليون من سكان المدينة بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال يعيشون في الموصل، وهم يخشون مستقبلهم التعيس خاصة عندما يشاهدون نماذج سيئة جداً لعمليات تحرير المدن كعين العرب (كوباني) ومدينة حلب السوريتين.
حتى اليوم الحيالي عاجزة عن فعل شيء، فتكاليف السفر في ظل هذه الظروف عالية جداً، لذا آثرت الجلوس في البيت وإن كانت عينها لا تفارق حقائب السفر، ولديها أمل أن يحدث ما يغيّر الحال إلى الأفضل، وإلا فعليها أن تشارك أقربائها وجيرانها المصير نفسه.