المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي

The Iraqi Civil Society Solidarity Initiative (ICSSI) is dedicated to bringing together Iraqi and international civil societies through concrete actions to build together another Iraq, with peace and Human Rights for all.

التسامح، المصالحة، القانون

ورقة معدة ضمن مشاركة المنتدى الاجتماعي العراقي في المنتدى الاجتماعي العالمي – تونس 2015

هادي عزيز علي*

11028970_854305081283076_6858372666647189129_n

يقول برتراند رسل: (الشيء الاخلاقي الذي أتمنى قوله لهم هو بسيط جداً، أود أن أقول ان الحب حكمة والكراهية حماقة. في هذا العالم الذي يترابط أكثر فأكثر بشكلٍ وثيق، علينا أن نتعلم التسامح مع بعضنا البعض . ولو أردنا العيش معاً لا الموت معاً، فانه يتوجب علينا تعلم نوع من الإحسان والتسامح). لذا فالتسامح يعني قبول واحترام الثراء الثقافي، وهذا القبول والاحترام  ليس تنازلاً أو هبة أو تساهلاً، بل هو إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي اقرتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهو ليس منة أو إيثارا يندرج تحت عنوان الكرم الاخلاقي المتمثل في منع الذات من احداث تدخل عنفي تجاه الأشخاص الذين لا يشاركوننا قناعاتنا، لكون التسامح قد انتقل من النزعة الفردية  إلى الواقع التشريعي الوارد في أحكام حقوق الإنسان الذي تضمنته العهود والمواثيق الدولية، وأصبح جزءاً من النظام القانوني للغالب من الدول، بما في ذلك العراق.

التسامح 

والتسامح لا يعني تخلي الفرد عن معتقداته أو التهاون بشأنها أو فرض قيم الآخر عليه، بل له التمسك بها مثلما يحق للآخرين ذلك، ويكون للدولة دور فاعل في ترسيخ مبادئ التسامح ضمن نظام تشريعي يحقق العدل ويحول دون التمييز او الاستبعاد والتعصب، وفي هذا المجال: يقول (لوك) ان التسامح مرادف لما هو عادل، بل يجب على الدولة والمواطنين ان يخضعوا له لأسباب تتعلق بالأمن والنظام العام، أي ان التسامح لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال بناء مؤسسي معد لهذا الغرض، ومنسجم مع إعلان (مبادئ التسامح) الصادر عن المؤتمر العام لليونسكو، باريس 16 تشرين الثاني 1995، الذي اختصر التسامح بالمبدأ الشهير القائل: (التسامح هو انسجام في الاختلاف).

وخلافاً لذلك، فغياب التسامح وازدراء الآخر، وعدم الاقرار بالتنوع الثقافي وحرية العقيدة، والشعور بالفوقية تجاه الغير، يؤدي حتماً إلى الاضطرابات السياسية وانتشار الكراهية والعنف، والدليل على ذلك ما شهده العراق منذ 2003 ولحد الآن.

المصالحة

للمصالحة الوطنية تعاريف عدة، منها: (عملية توافق وطني تنشأ على أساسها علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية، وتقوم على قيم التسامح وإزالة آثار الماضي، من خلال آليات محددة واضحة وفق مجموعة من الاجراءات تهدف للوصول إلى نقطة الالتقاء). وتعرّف ذلك بالمعنى العام: (توافق وطني يهدف إلى تقريب الرؤى المختلفة بين الأطراف المتخاصمة أو المتنازعة من خلال إيجاد الحلول المقبولة للأخطاء والانتهاكات والجرائم عن طريق الحوار والتسامح مع الماضي وبمنهجية السلم والمشاركة وعلى وفق الأحكام العامة لحقوق الإنسان)، أو كما تُعرف قانوناً: (الصلح عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بالتراضي) المادة (698) من القانون المدني. والمصالحة بهذا المعنى تلتقي مع التسامح – رغم الاختلاف لغةً واصطلاحاً – بمشتركات عدة منها :استعداد الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات في احترام خيارات الآخر وقناعاته وقيمه، فضلا عن انحيازهما للضحايا مع لزوم جبر الضرر. وفي ضوء ما تقدم نبيّن الملاحظات الآتية:

1 – يتم اللجوء إلى مرحلة العدالة الانتقالية من خلال مقاربة سياسية لبناء الدولة بعد التخلص من الأنظمة الاستبدادية، وهناك دول عديدة مرت بهذه المرحلة، كجنوب أفريقيا ودول أوروبا الشرقية ورواندا والأرجنتين، وسواها من الدول الأخرى، ولكل واحدة من تلك الدول أفكارها وتطبيقاتها في المصالحة مع الماضي، من خلال لجان تأخذ على عاتقها التحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المواطنون، سواء كان ذلك بالإقصاء أو التهميش أو استعمال العنف، والسبل اللازمة لجبر الضرر وآلية عبور تلك المرحلة، مع الحرص على أرشفة الاجراءات المتخذة باعتبارها جزءاً من ذاكرة الوطن. إلا أن العراق، وبعد الاحتلال في 2003 اعتمد العدالة الكلاسيكية (عدالة المحاكم) بدلاً من أحكام العدالة الانتقالية، إذ أنشئت محكمة خاصة أخذت على عاتقها محاكمة أشخاص النظام السابق، وكان هذا التوجه معززاً بتشريع (اجتثاث البعث) الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة، والمتحول بعدئذٍ إلى قانون المساءلة والعدالة، لذا فإن المصالحة مع الماضي لم يكن مطروحاً من قبل الممسكين بالسلطة.

2 – طرح موضوع المصالحة الوطنية من خلال الأطراف السياسية المشتركة في السلطة – في النظام الجديد – وممن هم خارج السلطة أيضاً، بعد ان استفحلت الاختلافات والكراهية المصحوبة بالعنف مع ظهور الشحن الطائفي وشعور البعض بالإقصاء من قبل الآخر، فبادرت بعض الأطراف سواء، كانت في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، ومن خلال (لجنة المصالحة) بطرح موضوع المصالحة، مع حراك المجتمع المدني في ندواته واللقاءات المعدة لهذا الغرض من أجل الوصول إلى صيغة مقبولة تقرّب وجهات النظر المتباعدة. وامتد هذا الموضوع لما يزيد على عقدٍ من الزمان، إلا أنه لم يفض إلى رؤية عملية معتبرة، بسبب:

  1. غياب الحماسة لحسم هذا الموضوع.
  2. النزعة للتفرد بالسلطة
  3. سطحية الأفكار المطروحة من قبل البعض المناظرة للحلول العشائرية.

 فالمصالحة عمل علمي ممنهج يستند إلى العلوم السياسية والاجتماعية وسواها من العلوم الأخرى، لا يمكن أن تتحقق على وفق النشاطات المطروحة حالياً.

3 – إن الغالب من الأفكار المطروحة تناولت الجانب السياسي، وعلى وجه الخصوص الأطراف السياسية (الخصوم) المشتركة في العملية السياسية، ولم يتم اعطاء موضوع التمييز ضد الآخر ما يستحقه من اهتمام، سواء كان التمييز بسبب الجنس أو العرق أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد، وهذا يعني ان المصالحة في حالة إقرارها ستكون مثلومة لعدم شمولها الجميع.

القانون 

أولاً- لا يمكن المباشرة بهذا العمل إلا من خلال تشريع ينظم موضوع المصالحة، يخوّل بموجبه كيان أو هيئة أو أي تشكيل (مستقل) يأخذ على عاتقة مهمة التنفيذ، لكون الأنشطة الحالية والتحركات المتعلقة بهذا الموضوع، التي تقوم بها أطراف عراقية عديدة تتم من دون سند أو ترخيص قانوني، بما في ذلك (لجنة المصالحة)، وبذلك فهي فاقدة لمرجعيتها القانونية. وضرورة وجود تشريع أمر ملح، فجنوب أفريقيا، وقبل المباشرة في إجراءات المرحلة الانتقالية، أصدرت (قانون دعم الوحدة الوطنية) في العام 1995، وبموجبه أسست (لجنة الحقيقة والمصالحة). واستناداً للقانون المذكور تمت اجراءات المصالحة، وعبرت جنوب أفريقيا المرحلة الانتقالية استناداً لأحكام ذلك التشريع. وكذلك الأمر في المغرب، فإن الهيئة المكلفة بهذا الموضوع وضعت نظامها الأساس، وتم التصديق عليه بقرار ملكي، ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 10/4/2004، واستناداً عليه باشرت الهيئة أعمالها. وهذا ما هو معمول به في الدول التي مرت بظروف مماثلة كافة.

ثانياً– مراجعة شاملة للتشريعات العراقية كافة التي (تُشرعن) للتمييز، سواء كان التمييز ضد المرأة أو بسبب إثني أو ديني أو طائفي أو معتقدي وغيرها، علماً بأن تلك التشريعات تحتل مساحة واسعة من النسيج التشريعي العراقي، وعليه يجب البحث عن حلول مناسبة لإلغاء مثل هذا التمييز. اذ لا يمكن الحديث عن المصالحة والتسامح مع وجود التشريعات المؤسسة للتمييز.

ثالثاً– تفعيل الأحكام الواردة في العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية المتخصصة بحقوق الإنسان، والمصادق عليها من قبل العراق بموجب قوانين صدرت لهذا الغرض، والكف عن النظر اليها باعتبارها بضاعة الغرب التي تريد النيل من موروثنا، وإعطائها علوية على النص التشريعي الوطني، كون السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية قد وقعتا على الالتزام بتلك النصوص الدولية. ومن ضمن الالتزامات تلك قيام السلطة التشريعية العراقية بإلغاء القوانين التي تتعارض وأحكام النصوص الدولية. فالنصوص تلك هي قوانين عراقية وجزء من النظام التشريعي العراقي، ومحمية بحكم المادة 130 من الدستور، ولا يمكن الحديث عن المصالحة الوطنية من دون تفعيلها والتعامل معها كنصوص وطنية، والمخالف لها يكون مخالفاً لنص القانون.

رابعاً– جرد التشريعات الوطنية التي تعرقل إجراءات المصالحة، أو تحول دون اتمامها، مادامت (تشرعن) لتمزيق النسيج المجتمعي، وسن تشريعات تعزز من أحكام المصالحة، كقانون للعفو العام، واعادة النظر بقانون المساءلة والعدالة، إذ من غير المقبول أن يكون القانون الأخير سبباً في إطالة أمد المرحلة الانتقالية إلى أجل غير معلوم.

خامساً– السعي لإنجاز التشريعات المؤسسة لبناء الدولة المطلوبة دستورياً، كقانون الأحزاب السياسية، وقانون حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة والإعلام وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي، ومجلس الاتحاد، ومجلس الدولة المتخصص بالقضاء الإداري، وإعادة النظر بقانون انتخابات مجلس النواب وسواها من القوانين الأخرى.

*قاضٍ وباحث قانونيn