السياق السياسي الإقليمي والمحلي في هجوم الموصل
صدى – كيرك سويل
بدأت القوات الأمنية العراقية شن عمليات مباشرة لتحرير الموصل، عاصمة محافظة نينوى، من قبضة الدولة الإسلامية في صباح 17 تشرين الأول/أكتوبر الجاري. وبدأت قوات البشمركة الكردية التي كانت تسيطر على الجزء الأكبر من المنطقة الواقعة شرق مدينة الموصل وشمالها قبل العام 2014، الاستيلاء على سلسلة من القرى شرق المدينة. ويرافقها جهاز مكافحة الإرهاب النخبوي، فضلاً عن الفرقة الخامسة عشرة التي أنشئت حديثاً في الجيش العراقي والتي خضعت للتدريب على أيدي الأميركيين وتشكّل نواة القوة الهجومية داخل المدينة. يشارك زهاء 80000 عنصر في الهجوم، مع الإشارة إلى أن عدداً كبير منهم يقاتل في عمليات ملحقة في ضواحي الموصل أو يدعم القوات القتالية.
تندرج عملية مكافحة الإرهاب في سياق صراع على النفوذ بين بغداد وأنقرة. فقد شنّ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، خلال إعلانه عن انطلاق العملية العسكرية، هجوماً لاذعاً على تركيا، قائلاً: “حاول البعض في الأيام الأخيرة تأجيج النعرات وتأجيل الهجوم”. يأتي هذا الكلام في أعقاب أسبوع تخللته هجمات بين العبادي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر وسائل الإعلام، ماأطلق حملة قوية ضد تركيا في وسائل الإعلام العراقية. يتمحور الخلاف حول قاعدة عسكرية تركية صغيرة أنشئت في كانون الأول/ديسمبر 2015 قرب بعشيقة، وهي بلدة صغيرة على حدود الموصل تقع في أراضٍ خاضعة لسيطرة حكومة إقليم كردستان، على الرغم من أنها ضمن الحدود القانونية لمحافظة نينوى. تضم هذه المنطقة أيضاً الاحتياطيات النفطية الأكبر في نينوى، بما في ذلك الاحتياطيات التي تخضع لعقد تنقيب جرى توقيعه مع شركة “إكسون موبيل” في العام 2012.
انطلق التراشق الإعلامي بين العبادي وأردوغان عند ورود أنباء بأن تركيا عمدت إلى تعزيز تدريب القوة العربية السنّية التي تقاتل بالوكالة عنها، وزيادة تسليحها للتركيز على الحروب في المدن لكن مصدر القلق الأكبر بالنسبة إلى السلطات العراقية ليس سيطرة القوات التركية على الموصل بل سيطرة القوة التابعة لها، والتي تضم بعضاً من عناصر الشرطة المحلية في الموصل، كونها تتألف في شكل أساسي من عسكريين كانوا جزءاً من النظام السابق وهم موالون سياسياً لرئيس مجلس النواب السابق أسامة النجيفي، الحليف الأساسي لتركيا في صفوف العرب السنّة. بعد العام 2003، أصبح النجيفي صوت القومية العربية في المحافظة. وقد ترأس شقيقه أثيل النجيفي قائمة حققت الفوز في الانتخابات المحلية في نينوى في العام 2009، وشغل منصب حاكم المحافظة حتى العام 2015. بعد قيام تركيا بتغيير سياستها في الملف الكردي، والذي أفضى إلى تحالف أردوغان مع مسعود البارزاني، غيّر الشقيقان النجيفي موقفهما وشكّلا تحالفاً مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني. ومنذ ذلك الوقت، يسعيان إلى قيام إقليم مستقل في نينوى يتمتع بحكم ذاتي مشابه للصلاحيات التي يمارسها الأكراد حالياً.
في حال تكلّل هذا المسعى بالنجاح، سوف يضع الشقيقان النجيفي نينوى تحت تأثير تركي أكبر مشابه لسيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على المحافظات الكردية. واقع الحال هو أن أثيل النجيفي، وعلى الرغم من إقالته من منصب الحاكم في منتصف العام 2015، دافع علناً عن الخطوات التي تبذلها تركيا لفرض منطقة نفوذ تابعة لها في شمال العراق، وذلك خلال السجال الأولي الذي أثير في كانون الأول/ديسمبر الماضي بعدما أنشأت تركيا القاعدة العسكرية على مقربة من بعشيقة. وقد استمر على النهج نفسه، مدافعاً عن دور تركيا في مطلع هذا الشهر عبر مقارنته مع عملية درع الفرات التي شنتها تركيا مؤخراً في شمال سورية.
كذلك يقرّ أنصار تركيا في وسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية بالهدف الاستراتيجي. فقد شرح الأكاديمي التركي برهان كوروغلو عبر قناة الجزيرة أن الدور التركي نابع من “حكم [الموصل] على امتداد أربعمئة عام”، ووصف معلّقان تركيان عبر قناة دجلة التلفزيونية السنية العراقية، نشر مزيد من القوات مؤخراً في بعشيقة بأنه امتداد للدور التركي التاريخي في المنطقة، وطريقة لحماية السكان السنّة. من شأن تسليح جيش من الموالين وتدريبه أن يتيح لأثيل النجيفي أن يقدّم نفسه بأنه أدّى دوراً أساسياً في تحرير الموصل، ويتحضّر للعودة إلى السلطة في انتخابات المحافظات التي ستجرى العام المقبل.
كذلك ساهم الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني في المساعدة على تنفيذ السياسة التركية في نينوى. الحزب هو شريك تركيا الأساسي في تشييد البنى التحتية المادية والتجارية لصادرات النفط المستقلة التابعة لحكومة إقليم كردستان وكركوك، ماأدّى إلى نشوب خلافات قوية مع بغداد. إلا أن هناك مكوّناً أمنياً أيضاً في تحالف البارزاني مع تركيا – وتشكّل بعشيقة جزءاً مهماً منه، حيث حصل الانتشار الأولي في الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2015، وبعد ستة أيام، توجّه البارزاني إلى أنقرة للقاء نائب وزير الخارجية التركي فريدون سينيرلي أوغلو، ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان. يبدو أنه جرى خلال الاجتماع وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق الخاص بإنشاء قاعدة بعشيقة. وفي حين أن بغداد وأنقرة ناقشتا تدريب قوات عراقية داخل تركيا، تطرق العبادي علناً إلى هذا الموضوع، في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، مع أحمد داود أوغلو الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك، ولم توافق بغداد قط على إنشاء القاعدة.
المشكلة التي يطرحها الدور التركي هي أنه يساهم في تعميق الاستقطاب السياسي والمذهبي في العراق. يكنّ العراقيون الشيعة مشاعر عداء شديدة تجاه تركيا، ليس فقط بسبب الدور التركي في العراق إنما أيضاً بسبب الدعم الذي تقدّمه أنقرة للمجموعات السنّية المسلحة في سورية. وتصدر الأصوات المنددة والأكثر تهديداً عن الميليشيات الشيعية التي توعّدت بشنّ هجوم مباشر على القوات التركية. فضلاً عن ذلك، أصدرت تسع عشرة مجموعة ميليشاوية شيعية بياناً هدّدت فيه باستهداف “المصالح التركية في العراق”، مايعني أنه قد يتم القضاء كلياً على الوجود التجاري التركي في الجنوب الذي كان قوياً فيما مضى وسجّل تراجعاً في الأعوام الأخيرة. في محافظة نينوى، تملك الميليشيات الشيعية المصلحة الأقوى في تلعفر، وهي مدينة مأهولة بالتركمان غرب الموصل حيث جنّد تنظيم الدولة الإسلامية أعداداً كبيراً من التركمان السنّة، وقام بتطهير التركمان الشيعة بعد استيلائه على المدينة في العام 2014.
لقد هاجم رئيس الوزراء العبادي الوجود التركي في معظم الفعاليات العامة التي شارك فيها خلال الأسابيع الماضية. ففي فعاليات نُظِّمت في كربلاء في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري تزامناً مع مسيرة دينية شيعية، قال العبادي إنه قلق من أن يؤدّي الوجود التركي إلى “انخراط القوات التركية في النزاع العسكري داخل العراق”، مضيفاً: “إنهم يعرقلون الجهود الهادفة إلى تحرير الموصل”. بيد أن انتقادات العبادي لتركيا معتدلة بالمقارنة مع الهجمات التي يشنّها معظم القادة الشيعة، وقد حاول إرساء توازن من خلال تشديده، خلال إطلاق العملية العسكرية، على أن وحدات الجيش والشرطة، وليس ميليشيات قوات الحشد الشعبي، هي الوحيدة التي ستدخل مدينة الموصل.
يتعارض ذلك مع النهج الذي يتّبعه رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي تركّز حملته غير الرسمية للعودة إلى السلطة بمساعدة من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، على اتباع خط مناهض للبارزاني وللأتراك. نستشف هذا النهج في كلمة ألقاها المالكي في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر في كربلاء، وقد سخر فيها من حكومة العبادي واصفاً إياها بـ”الضعيفة”، كما أنه لعب على وتر التهديد التركي-الكردي في نينوى محذّراً من مغبّة “التوسّعية” و”التغيير الديمغرافي” في هذه “المحافظة العربية”. وفي كلمة متلفزة حول عملية الموصل في 15 تشرين الأول/أكتوبر، وضع المالكي النزاع في إطار مختلف عن ذاك الذي تحدث عنه العبادي، مشدداً على التهديد التركي ومطالباً بتراجع الأكراد، في إشارة إلى الأجزاء الخاضعة لسيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني في نينوى. وعلى النقيض من العبادي، اعتبر المالكي أن قوات الحشد فرع من فروع القوات المسلحة تتساوى في منزلتها مع الجيش.
في حين أن التعاون مع البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في الشؤون الأمنية والنفطية يخدم المصلحة العامة، إلا أنه يضع العبادي في موقع هش. فقد حافظ هذا الأخير على سياسة المالكي القائمة على المركزية في مجال الصادرات النفطية، غير أنه حاول أيضاً العمل مع البارزاني، وتوصَّل إلى اتفاق معه في آب/أغسطس الماضي لتقسيم صادرات كركوك النفطية، وعقدَ اجتماعين علنيين معه في بغداد في أيلول/سبتمبر الماضي حول عملية الموصل، وقد أشار في مستهل الاجتماعَين إلى البارزاني بصفة “رئيس إقليم كردستان”، الأمر الذي عرّضه للانتقادات من أنصار المالكي، نظراً إلى أن ولاية البارزاني انتهت في 19 آب/أغسطس 2015، وشكّل رفضه مغادرة منصبه عاملاً أساسياً في انهيار المؤسسات في كردستان العراق.
في حين أنه قد ينتهي الأمر بتركيا بتمكين الفصائل المدعومة من إيران التي تزعم أنها تتصدّى لها، من الصعب استشراف نهاية ناجحة لهذا التدخل. ومن أبرز الأسباب انهيار الائتلافات التي شكّلها حلفاء تركيا العراقيون. فقد تدهورت علاقات البارزاني مع الأفرقاء الأكراد الآخرين إلى درجة أن كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان تفككت مؤخراً، فضلاً عن انهيار التحالف العربي السنّي بقيادة النجيفي، والذي يتمثل في كتلة “متحدون”، بعدما انقلبت عليه اثنتان من الفصائل الثلاث التي يتألف منها. وهكذا لايبقى سوى تحالف البارزاني-النجيفي الموالي للأتراك الذي يملك 35 مقعداً فقط من أصل 328 في البرلمان.
إذاً لعل العبادي لايقصد فقط الميليشيات الشيعية في إصراره على أن الجيش وقوات الشرطة هي الوحيدة التي ستدخل الموصل، بل يعبّر أيضاً عن تصميم على إبقاء ميليشيا النجيفي السنّية خارج المدينة ومنع تركيا من دخولها. نظراً إلى أن الشقيقَين النجيفي خسرا دعم العرب في ريف نينوى، جراء التداعيات المترتبة عن روابطهما مع البارزاني، سيجد أثيل النجيفي صعوبة كبيرة في العودة إلى منصبه في أعقاب الانتخابات المقبلة من دون تأدية دور بارز في تحرير الموصل. وعلى ضوء احتمال اندلاع نزاع ميليشيات ذات صبغة مذهبية للسيطرة على تلعفر، قد تبقى نينوى نقطة تفجّر مسبِّبة للاستقطاب بعد تحرير الموصل، الأمر الذي يؤثّر في الانتخابات المقبلة.