سلطة الأسلمة السياسية في العراق وتقويض أسس الدولة المدنية
رؤية سيكو-سياسية، ورقة عمل مقدمة ضمن مساهمة الوفد العراقي في اعمال المنتدى الاجتماعي العالمي في تونس- للفترة من 26 ولغاية 30 من شهر اذار العام 2013- د. فارس كمال نظميã
مـقـدمـة
أصبح الدين اليوم متموضعاً في قلب الحدث السياسي المتحكم بمصائر ملايين الناس في بلدان الشرق الأوسط ومحيطه. فالهوية السياسية لكل من السلطة والدولة في أغلب هذه البلدان أخذت بالتحول التدريجي أو المفاجيء من العلمانية الاستبدادية التقليدية التي ارتبطت تأريخياً بالفساد والقمع والظلم الاجتماعي، إلى هوية إسلاموية تلهج بديمقراطية ضبابية لا ترى في السلطة أو الدولة إلا خياراً من خيارات الحكم الإلهي الواجب فرضه على المجتمع، سواء في العراق أو تونس أو مصر أو ليبيا.
العراق سبق الآخرين، وافتتح القرن الحادي والعشرين بتجربة الدين السياسي الحاكم. فقد شجعت إدارة الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 زعماءَ الجماعات والأحزاب الدينية من مختلف الطوائف ليمارسوا تأثيراً أساسياً في الحياة السياسية. وكانت تلك هي البداية الحقيقية لبزوغ عصر الإسلام السياسي في الشرق الأوسط (أي قبل نحو ثمان سنوات من اندلاع انتفاضات الربيع العربي).
وهذا ما بات يُصطلح عليه اليوم بـ”الأسلمة” Islamization، أي سعي الأحزاب والجماعات الدينية بمذاهبها وتوجهاتها المتعددة إلى أسلمة السلطة والدولة والمجتمع والفرد في آن معاً مستعينةً بصناديق الانتخاب للوصول إلى غاياتها؛ بمعنى نزع الصفة البيولوجية أو الاجتماعية التطورية عن الحدث، وإلباسه هويةً ماورائيةً مطلقة تتجاهل نسبية عناصر المكان والزمان.
إن سؤالاً جوهرياً سيظل يواجهنا لعقود: أهو دين أم تديّن أم تديين؟ أهو إسلام أم تأسلم أم أسلمة؟ أهو دين ايديولوجي محدد العقائد والغايات في أذهان معتنقيه؟ أم هو صورة إدراكية سيكولوجية حمّالةُ أوجهٍ حد التشظي، ونحو كل وجه منها يتجه جمهور محروم ومتعصب ومتعطش لأي يقين يريحه من أزمته الهوياتية المتفاقمة في عصر عولمي، تهيمن فيه أصنام التكنولوجيا وتنحسر العقلانية. لذلك لا بد من التمييز المفاهيمي بين هذه المصطلحات والمسميات.
الدين أو الإسلام هو بنية فوقية فكرية كالعلم والأدب والفن والفلسفة، أي نظام من أفكار أو حقائق سوسيو-تأريخية تتعلق بتطور الوعي الاجتماعي للإنسان عبر التأريخ. ولا اعتراض على احقية أي دين أو عقيدة في النمو والتطور والتبشير والانتشار. أما التديين Religionization أو الأسلمة فهي محاولة عنفية قسرية لجعل كيان تنظيمي أو خدماتي (كالسلطة أو الدولة) يرتدي عمامةً لاهوتية ويعتنق عقائد دينية غير متفق أصلاً على أحقيتها بين رجال الدين أنفسهم.
إن هذه الأدينة هي في جوهرها فعل سيكولوجي مضاد للطبيعة البشرية التي فُطرت على التنوع والتعددية واللامحدودية في خياراتها العقلية والعاطفية. ولذلك أرى أن الهوية الإسلاموية أو المتأسلمة أو الطائفية تعني انتقالاً من الطابع السوسيو-ديموغرافي المحايد للذات إلى الطابع العقائدوي الذي يضع الفرد بمواجهة الآخر المختلف عنه دينياً أو مذهبياً.
فالأسلمة تنقل المسلمَ من ذاته الاجتماعية المتسامحة والمتعايشة مع الآخرين المغايرين له إلى ذاته الاجتماعية المنغلقة المتأسلمة المتصادمة حتماً معهم.
ما أهداف سلطة الإسلام السياسي في العراق؟
أحزاب الإسلام السياسي في العراق تحاول إعادة إنتاج الدولة والمجتمع على مقاساتها الطائفية ما قبل المدنية. ومن هنا أتبنى فرضية أساسية نابعة من الملاحظات النظرية الفكرية ومن نتائج الدراسات الميدانية، هي:
إن محاولة فرض الأسلمة السياسية على المجتمع العراقي، هي خيار يقع بالضد من النزعة “العلمانية الاجتماعية” الراسخة لهذا المجتمع. لذلك فإن أحد الأسباب الرئيسة المفسرة لاستمرار مسلسل الصراع السياسي الدموي في العراق هو نزعة الأحزاب الدينية الحاكمة فيه لتشكيل المجتمع على شاكلتها، أي محاولة تطييفه قسراً عبر إخراجه من هويته المسلمة المسالمة بمذهبيها المتعايشينِ (السني والشيعي) وإدخاله في هويةٍ تأسلمية متعصبة بمذهبيها المتصارعين.
إن هذا الهدف الأساسي للإسلام السياسي المتمثل بإعادة إنتاج الدولة والمجتمع على مقاساته الطائفية ما قبل المدنية، إنما يقوم على أساس ثمانية دوافع جوهرية تشكل باجتماعها “سيكولوجيا الإسلام السياسي” التي أمكن حصرها خلال السنوات العشرة الماضية في العراق بالآتي:
1- فوبيا الحرية والحريات
2- معاداة الجمال
3- إنكار الطبيعة البشرية
4- عقدة المرأة
5- الرغبة بتجهيل المجتمع وإفقاره
6- تمجيد الماضي والخوف من المستقبل
7- غرائزية المال والسلطة والجنس
8- كره الهوية الوطنية
هذه الدوافع غير المعلنة للإسلام السياسي الحاكم في العراق أنتجت سياسياً عدداً من الظواهر الاجتماعية المهمة، من بينها:
- محاربة النزعة العلمانية الاجتماعية السائدة في العراق
- الترويج للتدين الزائف
- تأبـيد المجتمع الرهينة
- ترسيخ النزعة الماسوشية في العقلية العراقية
- تعوير المرأة وتعهيرها
- تفشي أزمة الضمير المهني
- تقويض الهوية البغدادية (المدينية)
- الفساد الأكاديمي في الجامعات العراقية
- استهداف وترويع الأقليات الدينية والعرقية
- سيكولوجيا المنطقة الخضراء
- سيكولوجيا قطع الكهرباء
- سادية مواكب السلطة في شوارع المدن
- موت السلطة في العقل الجمعي العراقي
ولنسلط الضوء على ظاهرتين أساسيتين تتعلقان بحرية التعبير هما “المجتمع الرهينة” و”تعوير المرأة وتعهيرها“:
المجتمع الرهينة
يمكن أن يوصف المجتمع العراقي بأنه كان “المجتمع الرهينة” على مدى نصف قرن، وسيبقى كذلك إلى حين. العراقي يعرف الحرية عقلياً لكنه يريد أن يظل سلوكياً رهينةً لقوة ما تعفيه من مسؤولية وجسامة المبادرة الذاتية لمواجهة وجود اجتماعي مكتظ بالأزمات والحرمانات اعتاد أن يتحاشاه خضوعاً وخوفاً من قسوة قوى متنفذة تنيب عنه في كل مرة. فهناك دوماً من كان يفكر عنا نحن العراقيين، ويقرر عنا، ويوقع بأسمائنا بدلاً منا: البعثيون، ثم المحتلون الأمريكان، ثم المتأسلمون سياسياً وأدعياء الوصاية الإلهية على عقول الناس.
نجحت سلطة البعث (1968-2003)م في ترويض العراقيين، فقط لأنها نجحت في زرع فوبيا الرقيب الداخلي في ذواتهم الجريحة، وسلبتهم اعتقادهم بفاعليتهم. فأصبح الفرد العراقي اليوم تفكيره أزماتي البنية، يرى في الحرية وهماً وفي الوهم حريةً. يشعر بعجزه عن المشاركة السياسية الفاعلة في أحداث بلاده. لا يستطيع أن يغادر عقدة كونه “رهينة” لقوى كاسحة حتى في حال الغياب الموضوعي لتلك القوى. إنه يبحث عن خاطف له يلوذ به، ويتصرف لاشعورياً كما لو إن قوة غير إرادته تحدد له مساراته.
وقد عاود المتأسلمون الاستفادةَ من سيكولوجيا “المجتمع الرهينة” وترجمتها إلى أصوات مؤيدة لهم توضع “طوعاً” في صناديق الانتخابات. فأصبح الرقيب الداخلي هذه المرة يستمد طاقته وديمومته ليس من سطوة الحزب أو القائد، بل من قدسية سلطة اللاهوت التي “لن تغفر” للناخب امتناعه عن التصويت لها بعد أن جرى ترجمة هذه السلطة إجرائياً إلى قوائم وأسماء ورموز تلعب دور “الوسيط المقدس” بين الإنسان وربه.
ولذلك لا عجب أبداً أننا رأينا ملايين العراقيين يلعنون مرشحي قوائم معينة ويصفونهم بالفساد وعدم الجدارة، ثم يهرعون لانتخابهم تحت وطأة مشاعر الذنب وخوفاً من “عقاب” الآخرة. فالرهينة العراقية لم تغادر عقلها ولا بصيرتها، لكنها عاجزة بعد أن تستعيد فردانيتها السلوكية، إذ ما تزال تديم ارتهانها بنفسها مستغرقةً في سيكولوجية التسليم لسلطة الآخر النائب عنها، بوصفه “المؤهل” للتحكم بمصيرها سواء في الدنيا أو في ما بعد الحياة.
تعوير المرأة وتعهيرها
ورث الإسلام السياسي الذكوري عقدة المرأة لكونه امتداداً معاصراً لذلك الاتجاه الفكري التأريخي القديم الذي استند إلى آليات التحريم والتعهير والتعوير بوصفها وسائل “مقدسة” ناجعة لإذلال نصف المجتمع وجعله ملحقاً بنصفه الآخر. ويمكن تحديد عنصرين في هذه العقدة:
- العنصر الأول (البعد الجنسي للعقدة):
– المرأة ليست أكثر من “شيء” أو في أحسن الأحوال هي “مخلوق” منتج للذة الإيروسية فحسب، وجدتْ لإشباع الغريزة الذكورية.
– إن الميكانزم النفسي الأساسي المحرك لهذه العقدة هو “التكوين العكسي” Reaction Formation، أي أن يُظهر المرء لاشعورياً عكس ما يبطن لأنه غير قادر على مواجهة صراعاته الباطنية نظراً لفداحتها الأخلاقية المقوضة لقيمته الذاتية. وهكذا فالمتأسلمون إنما يمارسون الإنكار والتلهية لغرائزهم الشبقية المكبوتة عبر ممارساتهم الفظة الهادفة لـ”تعـفيف” المرأة ضمناً وصراحةً.
- العنصر الثاني (أي البعد الثقافي للعقدة):
– المرأة مؤنثة وليست من جنس الله الذكر بعكسنا نحن الرجال، ولذلك فالسيادة والسلطة لنا.
– غير إن كل ذلك لا يكفي إنما يتوجب على المرأة ايضاً أن تعيد صياغة مفهومها عن ذاتها بما يتلاءم مع نظرة الإسلام السياسي لها. عليها أن تسوغ دونيتها بأن تتوحد بقاهرها لتصير جزءً ذهنياً متيناً من منظومته الثقافية. وهي بذلك ستأمن قسوته وسطوته، إذ تنحاز له وتبرر له اضطهاده لها بأن تسبغ العدل على ظلمه فتمنحه المعصومية التي ينشدها.
خــاتــمــة واسـتنتاجـات
أثبتت التجربة العراقية في مرحلة ما بعد سقوط الفاشية القوموية أن التديين السياسي للسلطة والدولة والمجتمع والفرد، يضع الجميع بموقف الصراع مع الجميع؛ يضع السلطة بمواجهة الفرد، والدولة بمواجهة المجتمع، والدين بمواجهة الدين، والطائفة بمواجهة الطائفة، والإنسان بمواجهة الإنسان، ويضع آفاق المستقبل بمواجهة قيود الماضي، ويضع الحرية بمواجهة الإلزامات القهرية لعقائد لا يمكن إثبات مطلقيتها أبداً، ويخلط المعايير ببعضها، فيصير الحرام حلالاً والحلال حراماً، وتغدو القسوةُ السادية حيال الآخر المغاير والتنكيلُ بالإرث الجمالي والثقافي للمجتمع أموراً يمكن تسويغها بل وشرعنتها بمسميات إلهية. والأهم من كل ذلك، إنه يشطر الشخصية البشرية إلى رقيب ومراقَب، إلى كابت ومكبوت، إلى آثم وفاضل، فيكبر ازدواج الأدوار ويغيب التناغم وتنشرخ الوحدة النفسية للإنسان بعكس كل ما أرادته وبشّرت به الأديان في منطلقاتها الأولى قبل أن يجري تسييسها!
إن الأسلمة السياسية في العراق لم تنجح إلا في إهانة الناس وإهانة الدين نفسه؛ لم تنجح إلا في تقويض العقد الاجتماعي بين المكونات البشرية ضمن جغرافيا العراق؛ لم تنجح إلا في إشاعة الاغتراب النفسي والعدمية واللامعيارية واليأس وكره الوطن لسبب محدد وملموس أن الأسلمة تعمل بالضد من النزعة العلمانية الاجتماعية العميقة لدى العراقيين.
ولأن الأسلمة تعمل بالضد من حقيقة الشخصية العراقية، فإن هذا التضاد سيطول أو يقصر بحسب درجة ونوعية الوعي الاجتماعي المعارض الذي سيبديه العراقيون نحو هذه الاستبداد الجديد. وإحدى الأدوات المهمة في صياغة هذا الوعي هو محاولتنا كمنظمات مدنية غير حكومية أن يظل صوتنا عالياً وتنويرياً وفاعلاً على الدوام.
ولذلك فإن تحالفاً عراقياً واسعاً للقوى المدنية والديمقراطية واليسارية والعقلانية ضمن إطار تنسيقي سياسي ونقابي وفكري وثقافي، يبقى هو الحل المرحلي والستراتيجي في آن معاً لمعضلة التقويض المستمر للأسس المدنية للدولة والمجتمع في العراق. فالطاقة النفسية البشرية التي يستغلها الإسلام السياسي لإيهام الإنسان بمقدساتٍ تزيده بؤساً وعبوديةً لغيره، هي ذاتها الطاقة التي يمكن أن يستثمرها التيار المدني لتحرير الإنسان من استغلال الإنسان. فالأمر لا يتعلق بنوع الطاقة، إنما بأسلوب إدارتها سياسياً وثقافياً.
ã دكتوراه علم النفس الاجتماعي. كاتب وباحث واستاذ جامعي في سيكولوجيا السياسة والمجتمع والشخصية. جامعة بغداد/ جامعة صلاح الدين – أربيل. Email: fariskonadhmi@hotmail.com