المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي

The Iraqi Civil Society Solidarity Initiative (ICSSI) is dedicated to bringing together Iraqi and international civil societies through concrete actions to build together another Iraq, with peace and Human Rights for all.

المسؤولية المشتركة وراء تلوث مياه نهر دجلة ببغداد

نستعرض في المقال التالي جملة من النقاط ذات الصلة بتلوث المياه في العاصمة بغداد، ونتحدث بالتفصيل عن تلوث نهر دجلة ضمن الحدود الإدارية للعاصمة، وما يترتب عنها من تبعات بيئية واجتماعية وصحية واقتصادية، بهدف نقاش إمكانية وضع معالجات وحلول من شانها تحسين الواقع البيئي للنهر وضمان استدامه الموارد المائية التي يوفرها. لا نستهدف تحميل المسؤولية لطرف دون اخر، ونرى ان ما سيرد في المقال هذا من مشاكل صحية وبيئية كنتيجة لتلوث نهر دجلة، هي مسؤولية تشاركية يتحمل ابعادها الجميع، ولا يعني ذكر/ تشخيص او الإشارة الى طرف بعينة اغفال دور الأطراف الأخرى في مسؤوليتها التعاونية للوقاية الفعالة من اضرار واثار التلوث. نؤمن بشكل قطعي ان المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق كل من المؤسسات الحكومية والوزارات والهيئات ذات الصلة، ثم المجتمع المدني ومنظماته، والمواطنين بشكل عام والساكنين منهم على ضفتي النهر بشكل خاص، وكذلك المشاريع التجارية الربحية كالكازينوهات والمنتجعات السياحية ومصانع والمعامل الخاصة، بالإضافة لدور السلطتين التشريعية والقضائية، كما سيرد تفصيل ذلك ضمن الاستعراض.

الواقع الحالي لنهر دجلة في مدينة بغداد

لا شك ان المياه هي أغلى هدية من الطبيعة، والأكثر أهمية للحفاظ على ديمومة الحياة لمختلف المخلوقات، وهي مطلوبة في جميع أنشطة الإنسان تقريبًا – للشرب والاستخدامات البلدية، وفي الري لتلبية احتياجات زراعة الأغذية والصناعات وتوليد الطاقة والملاحة والترفيه[1]. ومع ذلك، فقد تدهورت جودة المياه في العديد من الأنهار الكبيرة بشكل متزايد في جميع أنحاء العالم بسبب الأنشطة البشرية في العقدين او الثالثة الماضية[2]. يعد الرصد المستمر لجودة المياه ضرورياً جداً لتحديد حالة التلوث في كل نهر ومصدر رئيسي للمياه[3].

إن نهر دجلة أحد أكبر الأنهار في العالم العربي، حيث يبلغ طوله ١٩٠٠ كم يمر حوالي١٤١٥كم منه داخل العراق، ويعتبر المصدر الرئيسي لمياه الشرب في بغداد، وهي أكبر مدينة في البلاد وثاني أكبر مدينة في العالم العربي حيث يبلغ عدد سكانها 7.5 مليون[4]. في المقال هذا، تم استخدام نظام المعلومات الجغرافية (GIS)، من أجل مقارنة بيانات نوعية المياه والمعلومات ذات الصلة التي تم جمعها لنوعية المياه في نهر دجلة، كما سيتم عرض توزيع أنواع واشكال التلوث في مياه النهر بالخرائط المرفقة لتسهيل الإحاطة بالأبعاد المعرفية للموضوع[5].

يدخل نهر دجلة مدينة بغداد عند الاحداثي 44˚24′ E, 33˚36′ N شمالاً ويقسمها الى قسميها المعروفين الكرخ والرصافة ويبلغ طوله داخل بغداد حوالي ١١٠ كم. رغم ان النهر يدخل مدينة بغداد بعد جريانه لمسافة طويلة مروراً بمدن مختلفة بدءاً من منابعه في جنوب شرق تركيا، مروراً بالحدود السورية ثم يمر داخل العراق بمحافظتي نينوى وصلاح الدين قبل وصوله لبغداد، غير ان الاختلاف الكبير في جودة مياه النهر بين نقطتي دخوله لبغداد وخروجه منها يمثل مؤشراً واضحاً لما يحمله معه من ملوثات اثناء مروره ببغداد، مع عدم انكار حقيقة ان النهر يصل الى بغداد محمل بالملوثات، غير ان مقارنة مسافة جريان النهر قبل وصوله لبغداد ونسب الملوثات فيه مع مسافة جريانه داخل بغداد وملاحظة فارق ارتفاع نسب التلوث يمثل دلالة قطعية ان ما يعانيه النهر داخل بغداد يعتبر كارثة بيئية يجب الوقوف عندها.

وحتى مع الاخذ بنظر الاعتبار حقيقة ان مدينة بغداد هي الأكبر من حيث الكثافة السكانية وحجم النشاط الصناعي والخدمي، فإن هذا لا يفسر فوارق القراءات بالمقارنة مع معدلات التلوث الموجودة في مدن اخرى بنشاط سكاني مشابه او مع المعدلات المسموح بها من منظمة الصحة العالمية. من جانب اخر فإن تلوث المياه يشكل تهديداً مضاعفاً مع تكرار أزمات الجفاف وانخفاض مناسيب المياه عن معدلاتها المعتادة، حيث ان التناسب عكسي بين قلة الواردات المائية وارتفاع تراكيز الملوثات في المياه.

بقراءة مقياس مجموع المواد الصلبة الذائبة TDS يتبين ان المعدل يرتفع من ٦٧٨ الى ٧٨٧ ملغم/لتر بين بداية دخول النهر الى بغداد وعند خروجه بمعدل حوالي ٧٠٠,٦٦ ملغم/لتر، وبمقارنة هذه القراءة مع ثلاث معايير أساسية هي معايير منظمة الصحة العالمية، ومعيار المجلس الكندي لوزراء البيئة، والمعيار العراقي المعتمد لعام ١٩٩٨، يتضح ان اقل نسبة مسجلة للمواد الصلبة الذائبة في النهر يتجاوز بكثير المعايير المذكورة، اذ ان الحد المسموح به هو ٥٠٠ ملغم/لتر بالنسبة للمياه الصالحة للشرب. اما المياه المستخدمة للأغراض الزراعية، فيمكن استخدام مياه دون مستوى ٧٥٠ مليموز/سم، فيما تعتبر هذه النسبة خطيرة وتسبب ضرر وتلف للأراضي الزراعية إذا تجاوزت ١٢٥٠ مليموز/سم. فيما تشير جميع القراءات في نهر دجلة الى نسب ملوحة تتجاوز بأحسن احوالها الحد المسموح.

كما يسجل مؤشر TSS لمجموع للمواد الصلبة العالقة قراءة تتراوح ادناها شمالاً بـ ٣٨,٨٣ واقصاها جنوباً بـ ٧٣،٤٥ ملغم/لتر، فيما يعتبر اقصى حد مسموح به لهذا المؤشر هو ٣٣,٢٢ ملغم/لتر، بحسب معايير منظمة الصحة العالمية التي تعتبر مياه من هذا النوع خطيرة للاستخدام البشري. بالإضافة لما ذكر، تسجل التحليلات وجود معادن متنوعة ضمن تراكيب مياه النهر وبنسب متفاوتة، ولعل أبرز المعادن المرصودة هي: الكالسيوم، المغنيسيوم، الكلور، الفلور، ثاني أوكسيد الكبريت، ثاني أوكسيد النتريت، الامونيا، والفوسفات بالإضافة الى الحديد والالمنيوم ومواد كيمياوية سامة اخرى. وكنموذج نستعرض نسب معدن الحديد في مياه النهر حيث تتراوح بين ١,١٦ و ١,٣٧ في حين ان الحد المسموح به هو ٠,٧٧ ملغم/لتر.

ومن هنا نستنتج ان كل مواقع نهر دجلة داخل بغداد تعتبر ملوثة بمعدلات أكبر بكثير من جميع المعايير الوطنية والدولية المعتمدة، وان استخدامها لمختلف الأغراض يشكل تهديداً على حياة مستخدميها. ان جملة المشاكل الصحية الناتجة عن استخدام مياه بهذا المستوى من التلوث، لا تنتهي مع تجنب استخدام مياه النهر بشكل مباشر، لأن جميع عمليات المعالجة ليست كافية بما يضمن إمكانية استخدام مياه النهر بعدها. علاوة على ذلك فإن نسب الملوحة تقتل أي فرصة للإنتاج الزراعي وتساهم على المستوى الوقتي بتدمير المحاصيل الزراعية والتقليل من جودة منتجها، وتضعف خصوبة الأراضي الزراعية على المدى المتوسط وتقلل من إمكانية استثمارها للأغراض الزراعية بشكل مستدام. لقد ساهم تلوث المياه بتعطيل النشاط الاقتصادي لعدد كبير من السكان الذين اعتادوا على الانتفاع من خيرات النهر عبر الصيد، او بالاستفادة من مياهه في الزراعة، وهذا أدى الى هجر الكثير من ذوي المهن لمهنهم.

وعلى المستوى الخدمي، ساهم الإهمال وعدم الاهتمام بالحفاظ على جودة ونوعية المياه بتعطيل فرص تغطية الحاجة السكانية للمياه، حيث ومع صعوبة توفير المياه الصالحة للاستخدام، أصبحت إمكانية الحصول إيصال مياه الشرب متذبذبة بشكل واضح، وتعذر تأمين حصول جميع السكان على حاجتهم منها.

الأسباب والمسؤوليات

تساهم الكثير من القطاعات فيما أشرنا اليه من تدهور لجودة المياه في نهر دجلة، نذكر ادناه أبرز ما تمكنا من رصده:

  • مخلفات الصرف الصحي: بعد ان خرجت العديد من محطات معالجة المياه الثقيلة ومياه الصرف الصحي عن الخدمة، مع قدم البعض الاخر، وعدم توفير محطات معالجة حديثة كافية لتغطية الزخم المتزايد، نلاحظ ان نسب كبيرة من المياه الثقيلة ومياه الصرف الصحي تلقى في النهر مباشرة دون معالجة.

 

  • المصانع والمعامل: تلقي العديد من المصانع الحكومية والأهلية مخلفات عملياتها الصناعية مباشرة الى النهر دون حسيب او رقيب، مع كل ما تحتويه هذه المخلفات من مواد عضوية ومعادن غير قابلة للذوبان مع مواد سامة وقاتلة. وتشير الاحصائيات الى وجود ما يزيد عن ٩٠٠ معمل ومصنع واقعة على جانبي النهر داخل بغداد. كما يشمل هذا القطاع، محطات غسيل السيارات وتبديل زيوت المحركات مع كل ما ينتج عنها من مخلفات تذهب الى النهر.

 

  • المستشفيات والمراكز اللا صحية: يمثل هذا القطاع أحد أكبر مصادر التلوث في بغداد، مع وجود أكبر مجمع طبي يقع مباشرة على حافة نهر دجلة، بالإضافة لعدد اخر من المستشفيات الواقعة على كلا الضفتين. حيث من الطبيعي ان تكون هذه المستشفيات مراكز لمساعدة الناس وعلاجهم، غير ان ما تلقيه هذه المستشفيات من سموم مباشرة الى النهر ينافي غرض وجودها. وهنا تجدر الإشارة ان مدينة الطب وسط بغداد تسرب مخلفات قرابة ١٠٠٠ مريض يومياً الى نهر دجلة مع محاليل كيمياوية ومواد غير ذائبة. ومن أبرز المواد المتسربة عن نشاط المستشفيات قرب النهر هي: الفورمالدهايد، كيمياويات تحليل وإظهار الصور، المذيبات الميثانول والاسيتون، الزئبق، والهرمون الانثوي الاستروجين، بالإضافة لكميات كبيرة من المضادات الحيوية والأدوية المستعملة لعلاج الأورام السرطانية.

 

  • المنشآت النفطية: لا يتوقف خطر المنشآت النفطية على الانبعاثات الغازية الناتجة عنها، بل يمتد ليشمل خطر أكبر تأثيراً وضرراً، وهي السوائل المتسربة عنها الى النهر والبيئة المحيطة. يمكن بوضوح ملاحظة البقع الزيتية المنتشرة بالقرب من مصفى الدورة نتيجة اهمال متابعة المخلفات العضوية للمصفى. كما يشمل هذا القطاع المحطات الحرارية التي تلعب دوراً في زيادة درجات حرارة المياه عشرات المرات بعد استخدامها لتبريد المكائن، حيث ان رفع درجة حرارة المياه أحد اشكال التلوث نتيجة لفقدان المياه لمجمل خصائصها الطبيعية.

 

  • الكازينوهات، المطاعم، والمنتجعات السياحية: بسبب اهمال ضوابط الرقابة والمتابعة، نجد الكثير من الأماكن الترفيهية تمارس اشكال مختلفة من تلويث البيئة، بداً بإلقاء النفايات والبلاستك في النهر، وانتهاءاً بربط منظومات الصرف فيها بجسم النهر مباشرة. يمكن ملاحظة حجم التلوث الناتج عن القاء النفايات في الأنهار عند زيارة أي من المواقع الترفيهية القريبة من النهر.

 

  • المبازل: ان تصريف مياه البزل شديدة الملوحة مباشرة الى النهر دون عزلها بسواقي تصريف خاصة يمثل احدى مصادر التلوث الملحوظة. إن مياه البزل تنتج عن غسل الأراضي الزراعية المالحة، حيث تعود المياه الناتجة عن الغسل مشبعة بالكيمياويات والاسمدة والاملاح، ومع ربطها بالمياه الجارية للنهر فإنها تلقي تراكيز كبيرة من السموم فيه.

 

  • النفايات والازبال: مع تكرار مشاهد اكداس النفايات على طول جانبي النهر، يساهم النهر في جرف الكثير من هذه الاكداس، فيحملها معه اثناء مسيره. ومن جانب اخر يعمد بعض المواطنين لإلقاء نفاياتهم في النهر للتخلص منها.

أصدرت جمعية حماة دجلة في عام ٢٠١٨ دراسة رصدت واقع التلوث في نهر دجلة ضمن الحدود الإدارية لمدينة بغداد، يمكنكم الاطلاع عليها من هنا. وتؤكد جميع هذه الوثائق وغيرها الصادرة عن جهات رسمية حكومية او مراكز بحثية ان الواقع البيئي لنهر دجلة وصل مستويات يصعب معها استثمار موارد النهر مالم يتم رصد ومعالجة التلوث الحاصل فيه.

 

[1] K. S. Kannan and V. Ramasubramanian, “Assessment of Fluoride contamination in Ground Water Using GIS, Dharmapuri District, Tamilnadu, India,” International journal of Engineering Science and Technology (IJEST), Vol. 3, No. 2, 2011, p. 1077

[2] O. Altansukh and G. Davaa, “Application of Index Analysis to Evaluate the Water Quality of the Tuul River in Mongolia,” Journal of Water Resources and Protection, Vol. 3, No. 6, 2011, pp. 398-414.  http://dx.doi.org/10.4236/jwarp.2011.36050

[3] A. M. Rabee, B. M. Abdul-Kareem and A. S. Al-Dhamin, “Seasonal Variations of Some Ecological Parameters in Tigris River Water at Baghdad Region, Iraq,” Journal of Water Resource and Protection, Vol. 3, No. 4, 2011, pp. 262-267. http://dx.doi.org/10.4236/jwarp.2011.34033

[4] K. W. AL-Janabi, F. N. Alazawi, M. I. Mohammed, A. A. Kadhum and A. B. Mohamad, “Chlorophenols in Tigris River and Drinking Water of Baghdad, Iraq,” Bulletin of Environmental Contamination and Toxicology, Vol. 87, No. 2, 2011, pp. 106-112.

[5] القراءات للباحث عباس جواد كاظم