رسالة الفقيه لا تصلح قانوناً
المفكر والكاتب العراقي: رشيد الخيون
عن صحيفة الاتحاد – الصورة من اختيار المبادرة.
أجازت وزارة العدل «الأحوال الشخصية الجعفري» (23 أكتوبر 2013)؛ وتبناه وزيرها الشيخ حسن الشمري، وفي ديسمبر أرجأ مجلس الوزراء الموافقة على القانون، وكانت تلك بارقة أمل، فحينها حسبنا أن الوزراء نظروا بعين الحاضر، وأن رئيس الوزراء عند كلمته: «دولة مدنية».
ضمناً سينتهي العمل، عند تشريع هذا القانون، بالأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لعام 1959، والمعدل لمرات، ورفعت منه مادة المساواة في الإرث، وبالجملة كان الأخير قانوناً يجمع بين الفقه والمدنية، أسمته قوى الإسلام السياسي بالوضعي، هذا ما سمعته من فضائية «النَّعيم»، وبالمقابلة يكون القانون الجعفري إلهياً.
كتبتُ العديد من النصوص عن الأحوال الشخصية، وأحدثها في «الاتحاد» (30 أكتوبر 2013) «الأحوال الشخصية العراقي.. نكوص الزمن»، وقبله فصل ضمن «بعد إذن الفقيه» (2011)، وفصلا بعنوان «عرائس الموت»، أي زواج الصغيرات، وهو مرتبط بهذا القانون. لكن تبدو بارقة الأمل وهماً، فقد أعلن مجلس الوزراء في (25 فبراير 2014) موافقته على القانون وإحالته إلى مجلس النواب، ولا يفهم من هذا التصرف غير تكريس الدولة الدينية بتطبيق رسالة الفقيه.
لسنا ضد رسائل الفقهاء واجتهاداتهم، وما يتناسل في رسائلهم منذ مئات السنين، هذا شأنهم كعلماء دين، لكن للدولة شأناً آخر، وهو أن تحسب للزمن حسابه، وأن توحد مواطنيها في قانون على أساس المواطنة لا الطائفة، وهذا ما هو موجود ونافذ (188 لعام 1959).
أمامي كراس «المرشد إلى الأحكام الجعفرية في الأحوال الشخصية» (النجف 1958)، كمرشد في المعاملات الجعفرية، وليس قانون دولة، لتنظيم المعاملات لأتباع المذهب، وهو لا يختلف عن الرسائل الفقهية. وعلى ما يبدو فإن الأحوال الشخصية الجعفري، الذي نحن بصدده، مستلا منه مع إضافات تشددية.
اعترض فقهاء كبار على مسودة هذا القانون، الذي تحمس له حزب «الفضيلة الإسلامي» الذي تأسس بعد 2003، ومنهم من قال: ليست هذه المهمة الراهنة، وأنه لم يراع الزمن، إضافة إلى ما به من «شطحات فقهية». وما يُضاف إلى ذلك أن جعل الرسالة الفقهية (المعاملات) قانوناً مفروضاً على الملايين، بعد إلغاء أي قانون يعارضه بما يتقاطع مع الزمن وإنسانية النظرة إلى المرأة؛ يعود سلباً على الفقه نفسه، ثم المذهب، والدين أيضاً.
لا أظن أن المذهب الجعفري يتجافى مع الزمن وضروراته إلى هذا الحد، ليُسن لأتباعه قانون دولة من وراء الزمن، وفي دستور 2005 المادة (14): «العراقيون متساوون أمام القانون من دون تمييز بسبب الجنس». فما هي المساواة على أساس الجنس في هذا القانون؟ هل المساواة في المطعم والملبس أم تُنتظر من الناحية الإنسانية؟ جاء في «شهادة النساء» (مادة 11): «يثبت ربع الوصية بشهادة واحدة، ونصفها بشهادتين، وثلاثة أرباعها بثلاث شهادات، وتمامها بشهادة أربع مسلمات»! ما يخص غير المسلمين، يعاملون أيضاً بدونية: «شهادة موثقة من شخصين ذميين»، بينما لغيرهم لا يهم التوثيق.
إثبات تمليك الوصية لا تُقبل فيه شهادة النساء «منفردات أو منضمات إلى الرجال» (مادة 14)، وعندما ظهرت عضوة برلمان تدافع عن القانون، وددتُ السؤال: كيف أصبحتِ برلمانية وتشرعين القوانين وشهادتك ناقصة؟ إلا أنها أجابت ضمن حديثها: «هذه شريعة الله». هكذا يحيلونها إلى الله! فعندما شُرعت تلك النصوص لم تكن المرأة محامية ووزيرة!
أما الطامة الكبرى، في هذا القانون، فهي زواج القاصرات اللاتي بلغن التاسعة، مع أن دولا لا تدعي الديمقراطية، ولم تكتب في ديباجة قوانينها «رواد الحضارة.. وفي وطننا خُطَّ أعرق عهد عادل لسياسة الأوطان»، قررت في أحوالها الشخصية عمر الزواج بـ(18) عاماً. وإيران الجعفرية ألغت التسع سنوات من تشريعها.
أما المادة (154) فتُجيز ضمناً العقد الشرعي حتى للرضيعة: «الصغيرة التي لم تكتمل (9) سنوات هلاليَّة وإن دخل بها زوجها»، وهذه قبل التسع سنوات تُستثنى من العدة. أقول: لماذا لا تكملوها وتذكرون ما جاء في رسائل الفقهاء، من السَّيد كاظم اليزدي (ت 1919) وما بعده: «وأما الاستمتاع بما عدا الوطء، من النظر واللمس بشهوة والضم والتفخيذ فجائز في الجميع ولو في الرضيعة» (العروة الوثقى). ألم يُفهم من (154) مثل هذا النص؟ نعم زواج الصغيرات أقرته مذاهب أُخر، من السنّة، وتعاني منه دول، لكنه لم يصبح قانون دولة إنما آراء فقهاء. أقول: هل من المعقول أن الدولة تشرع قانوناً رسمياً، وهي دولة مختلطة دينياً، أن يكون زواج غير المسلمة مجرد زواج متعة؟ ما هذا الجرح في المواطنة وتاريخها؟!
هل مِن المعقول أن يُشرع قانون دولة يتحدث عن عدم ممانعة الزوجة للزوج: «لا تفعل أي فعل ينافي حقه في الاستمتاع» (مادة 101)! وكأن المعاشرة أجسام لا أرواح! بينما دول ليس لها عمق حضارة العراق اعتبرت ذلك اغتصاباً، والعلاقة من دون السادسة عشرة محرمة بالقانون. فهل ترون الله مع هذه القوانين أم مع قانونكم؟ أما أن تقولوا: كان زواج السَّيدتين عائشة وفاطمة بهذا العمر، فنقول تلك روايات لا قرآن!
ومن المواد: «لا ترث الزَّوجة من تركة الزوج من الأراضي، لا عيناً ولا قيمة، وترث من المنقولات، ويدفع لها قيمة الأشياء الثابتة وهي ملزمة بقبول القيمة! لا تخرج الزوجة من بيت الزوجية إلا بإذنه» (مادة 213). وأعود وأسأل النائبة (مشرعة القوانين) كيف تنوبين عن الناس وأمرك في تخطي عتبة الدار بيد زوجك؟
الأفظع من هذا أن القانون يختتم نصوصه بالعبارة: «ترسيخاً لأُسس الديمقراطية وإبراز مظاهرها في عراق ما بعد الديكتاتورية»! فهل الديمقراطية تتنافى مع التحضر! وهل حظ شيعة العراق سيئ لتتحكم بمصائرهم هذه العقول! أقول من حق من يريد اللجوء إلى رسائل الفقهاء، مهما كان فيها، لكن ليس من حق الفقيه أن يستغل هبوط المستوى الفكري والثقافي والشحنة الطائفية، كي يمرر مثل هذا القانون. وعلى الفقهاء الذين اعترضوا أن ينصحوا بأن رسائلهم بتشريع الفقيه لا بتشريع الدولة. لا تغلبوا مصالحكم على عقول الناس، فمفاتيح الجنة ليست بأيديكم.
ما كتبنا هذا إلا دفاعاً عن العقل، ولولا تحول وزارة العدل إلى مكتب فقيه، يريد أن يفرض علينا قانونه، ما تحدثنا. لا نملك غير الصرخة، لكم التحكم بمصائرنا ولنا الصراخ، فهل هذا حرام أيضاً؟ أختم: تصلح رسالة الفقيه للعبادات لا المعاملات، لأن التقاطع مع الزمن حاد جداً.