قانون الأحوال الجعفريّة.. مرّة أخرى!
بإصرار كبير واصل وزير العدل العراقي حسن الشمري الدفع بقانون “الأحوال الجعفريّة” المثير للجدل إلى الواجهة. فنجح في إقرار القانون في مجلس الوزراء وإيصاله إلى البرلمان للنظر في تشريعه وسط رفض من القوى المدنيّة العراقيّة.
إن ربط هذا القانون بوزير العدل العراقي وبمن يقف وراءه أي حزب الفضيلة الذي ينتمي إليه، له ما يبرّره. فما عدا الوزير وأعضاء حزبه، ما من طرف سياسي أو برلماني أو ديني قد تبنّى فعلياً هذا القانون، إلى درجة أن المرجعيّة الشيعيّة الرئيسيّة في العراق نأت بنفسها عن الدفع باتجاه إقرار القانون.
كيف حصل الوزير العراقي على كل هذا الزخم بخصوص هذا القانون، محققاً نجاحاً في تجاوز كل العقبات الإداريّة والسياسيّة والدفع به قبل أسابيع من الانتخابات البرلمانيّة إلى صدارة الاهتمامات، وذلك بعد أن كان مجلس الوزراء قد اتّخذ قراراً في الرابع من كانون الأول/ديسمبر 2013 بتأجيل البتّ فيه إلى ما بعد الانتخابات؟
الإجابة عن هذا السؤال تأتي بشقَّين، أحدهما قانوني والآخر ديني. فعلى المستوى القانوني، ينسجم القانون من حيث الشكل مع المادة 41 من الدستور العراقي التي تنصّ على أن “العراقيّين أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصيّة، بحسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظّم ذلك بقانون”.
ومن حيث المضمون، فإن القانون يحفل بالأحكام التي تنظر إليها النخب المدنيّة باعتبارها تتعارض مع جوهر الدستور العراقي الذي منع سنّ أي قانون يتناقض مع المادة 2 من الدستور التي نصت في الفقرة “ب” منها على أنه “لا يجوز سنّ قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطيّة” وفي الفقرة “ج” على أنه “لا يجوز سنّ قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسيّة الواردة في هذا الدستور”. أما الفقرة “أ” من المادة نفسها، فتعدّ حجّة للوزير وتنصّ على أنه “لا يجوز سنّ قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام”.
هذه المادة المطاطة وغير الواضحة أصبحت في الواقع حصان طروادة الذي تريد بعض الأطراف الدينيّة في العراق ركوبه، للوصول إلى فرض وجهة نظرها حول نمط الأحكام ونمط القوانين في العراق.
وهذا التداخل يقود إلى المستوى الثاني من المعطيات التي ساهمت في نجاح مهمّة وزير العدل، وهي معطيات دينيّة بالدرجة الأولى.
فمن حيث المبدأ، لن يكون بمقدور أي رجل دين في العراق رفض تطبيق أحكام تعود إلى عصور سابقة تتوفّر حولها نصوص دينيّة، بعضها يتعلّق بسنّ الزواج الذي لا يمنع النص الديني من أن يكون تسع سنوات. ويتعلّق بعضها الآخر بوضع المرأة في الحياة الاجتماعيّة ودورها في الحياة، إذ تحفل نصوص القانون المذكور بالأحكام التي ترهن إرادة المرأة بزوجها وتحرمها من كل المكاسب التي حصلت عليها في ظلّ قانون الأحوال الشخصيّة الحالي الذي يعدّ قانوناً مدنياً بدرجة كبيرة والذي أقر في العام 1959.
والمعضلة التي تقف عندها الأزمة حول قانون “الأحوال الجعفريّة” تنطلق من سؤال أساسي مفاده أن نمط هذه القوانين التي تخصّ قضايا الزواج والطلاق والإرث وحقوق المرأة شهد تطوّراً طبيعياً في العالم لتحقيق المزيد من الحريات والمساواة.. فلماذا على القوانين العراقيّة أن تعود خطوات إلى الوراء في هذه المجالات بدلاً من أن تحرز تقدّماً؟
ردود فعل المرجعيّة الدينيّة العليا في العراق على هذا القانون، كان قد نقلها بيان الشيخ بشير النجفي الذي قال بأن القانون ليس من ضمن متبنيات المرجعيّة وهي لم تطّلع عليه.
وهذه الإشارة كانت كافية لربط القانون بشكل أساسي بالوزير الشمري وبحزب الفضيلة من ورائه. فالمرجع الروحي للحزب محمد اليعقوبي يقف في مقدّمة رجال الدين المتبنّين له.
وبعيداً عن الظروف الموضوعيّة لإقرار القانون عبر البرلمان العراقي أو عدمه، وهو [الإقرار] أمر مستبعد مع اقتراب موعد الانتخابات وتلكؤ جلسات البرلمان أساساً وتعثّر إقرار الموازنة التي من المفترض أن تكون المهمّة الأخيرة له قبل أن يعلن حلّ نفسه، فإن ثمّة ارتدادات تسجّل وقد فتح اقتراح هذا القانون الباب لها.
وأبرز هذه الارتدادات ما صرّح به وزير العدل العراقي في الثاني من آذار/مارس الجاري في بيان قال فيه إن وزارته على استعداد لاستقبال “أي طائفة تريد تنظيم قانون خاص بأحوالها الشخصيّة أو الدينيّة أو المذهبيّة، بما يسهم في إيجاد تعايش سلمي بين جميع فئات الشعب العراقي”.
وهذا يعني أن مذاهب عراقيّة أخرى ستتوجّه إلى إقرار قوانين خاصة بها. وهي سوف تستعين تحت ضغط الأوضاع الشاذة التي يعيشها المجتمع العراقي وفي ظلّ سطوة الأحزاب الدينيّة، بالمنظومة الدينيّة لتنظيم الأحوال الشخصيّة. وهي منظومة لن تنتج في الحقيقة نصاً أكثر تطوراً من “القانون الجعفري”.
هذه أزمة حضاريّة قبل أن تكون أزمة قانونيّة. فمن المنطقي جداً أن لا نحكم على سلوكيات العصور الماضية بحسب معايير عصرنا الحالي. فالأحكام التي نظّمت المجتمعات قبل ألف عام كانت وليدة ظروفها وبيئتها. ومن المنطقي أكثر أن لا نرهن الحاضر بدوره بأحكام تلك العصور!
إن تزويج المجتمعات القبليّة القديمة بناتها وهنّ بعد في عمر الطفولة، لا يعني السماح قانوناً بحدوث مثل هذا الأمر اليوم، وإن ووصف المرأة قبل ألف عام باعتبارها تابعة للرجل لا تخرج من المنزل إلا بإرادته ويحقّ له تطليقها متى شاء وهجرها والتزوّج عليها متى شاء، أمور تفهم في سياقات ذلك الزمن.. لكنها غير مقبولة اليوم.
المصدر: المونيتور