الحركة النسويّة في العراق: إخفاقاتها وتحديّاتها
علي معموري – المونيتور
حين طرحت الناشطة النسويّة الشهيرة منى الطحاوي نظريّتها القائلة بأن المرأة مغضوب عليها ومكروهة في الشرق الأوسط، واجهت اعتراضات من قبل الرجال والنساء على حدّ سواء في مختلف البلدان العربيّة. لكن حين نأخذ النموذج العراقي ونرى الهبوط والانحدار في وضع المرأة والنشاط النسوي، لا يبقى أمامنا من خيار –ربما- سوى الإذعان بالنظريّة المذكورة.
والعراق كان من روّاد الحركات النسويّة المطالبة بالمساواة ما بين المرأة والرجل في البلاد العربيّة. وقد عرف في وقت مبكر جداً شخصيات مهمّة ناضلت من أجل حقوق المرأة ورفع الاضطهاد الاجتماعي والديني عنها. فقد نشر الشاعر والأكاديمي العراقي الشهير جميل صدقي الزهاوي مقالاً حول ضرورة تحرير المرأة من قيود التقاليد الاجتماعيّة المتخلفة في العام 1910 في مجلة “المؤيد” المصريّة، ليُعاد نشره لاحقاً في مجلة “تنوير الأفكار” العراقيّة. وقد أدّت المقالة إلى حراك شعبي واسع بين مؤيّدي هذه الفكرة ومعارضيها.
وقد أسّس الصحافي العراقي الشهير حسين الرحال وزملاؤه حركة اجتماعيّة واسعة لتحرير المرأة في العام 1924. وقبل ذلك بعام واحد أي في العام 1923 تأسس نادي النهضة النسائيّة في بغداد. وظهرت ناشطات ينادين بتحرير المرأة منذ ذلك الحين، من أبرزهن بولينا حسون إحدى زعيمات النهضة النسويّة، والتي أصدرت أول مجلة نسويّة في العام 1923 باسم “ليلى”. إلى ذلك، عرف العراق أول وزيرة على مستوى العالم العربي كله، حين تسلّمت الدكتورة نزيهة الدليمي منصب وزيرة البلديات (1959-1962)، وقد أسست رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقيّة في العام 1952 وترأستها.
وقد اهتمّت النهضة النسويّة العراقيّة منذ بداياتها بالدعوة إلى إصدار قانون مدني للأحوال الشخصيّة بدلاً من القوانين التمييزيّة المتبقية من العهد العثماني. وقد نجحت جهودها بعد أعوام إذ حصل العراق أخيراً على قانون مدني للأحوال الشخصيّة في العام 1959، حاول أن يتوافق مع المواثيق العالميّة بخصوص مساواة المرأة بالرجل من دون المساس بالمعتقدات الدينيّة السائدة في المجتمع.
وعلى الرغم من توالي الأنظمة الديكتاتوريّة على العراق، إلا أن النظام العلماني الخاص بتلك الأنظمة حافظ على الحركات النسويّة ولم یقمعها. لكن منذ قيام نظام الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين بحملته الإيمانيّة الشهيرة في العام 1991، تحوّل الأمر تماماً. فقد سعى النظام السياسي إلى استعادة شرعيّته بعد هزيمة حرب الكويت، عبر الاتحاد مع القوى العشائريّة والجماعات الدينيّة الأصوليّة. وقد أدّى ذلك إلى تراجع الحركات الاجتماعيّة التنويريّة وعلى رأسها النشاطات النسويّة المطالبة بالمساواة، التي تتنافى مع طبيعة السلطة الذكوريّة في البنية العشائريّة والمعتقدات الدينيّة للجماعات الأصوليّة.
أما بعد العام 2003، فلم تتح الفرصة أمام التيّار النسوي كي يتنامى وسط صعود الأحزاب الإسلاميّة التي لا تؤمن وفق مبادئها الأصوليّة بالمساواة ما بين المرأة والرجل. فهي تعتبر الحركات النسويّة نوعاً من النشاطات الماسونيّة المستوردة من “الغرب الفاسد”. ومن الواضح جداً أن معتقدات صنّاع القرار تترك آثارها بشكل واضح في مسار المجتمع. فحين تتولى وزارة شؤون المرأة في العراق امرأة بخلفيات دينيّة تناهض حريّة المرأة وتصرّح بأنها تعارض مساواة المرأة بالرجل وتعتقد بضرورة قوامة الرجل على المرأة، فما هي حظوظ المؤسسات النسويّة بالنمو والازدهار؟!
وقد حاولت ناشطات نسويات في العراق القيام بأعمال بحثيّة وميدانيّة بهدف تعزيز وضع المرأة في البلاد، لكن تلك المحاولات لم تفلح وباءت بالفشل. ومن أبرز تلك النماذج، مؤسسة “عراقيات” التي أسستها الدكتورة أسماء جميل والتي قدّمت من خلالها مجموعة دراسات وأطروحات حول شؤون مختلفة مرتبطة باضطهاد المرأة العراقيّة وتعرّضها للعنف والإقصاء وغيرها من أشكال الاضطهاد في البيئات العشائريّة أو في حالات خاصة مثل حالة الأرامل. وقد قدّمت كذلك مقترحات قانونيّة لتحسين وضع المرأة في البيئة الذكوريّة المحيطة بها. لكن العمل بالمؤسسة توقّف أخيراً بسبب عدم توفّر الإمكانيات الماديّة لاستمرارها، وعدم اهتمام الجهات الحكوميّة المعنيّة إطلاقاً بإنتاجها القانوني والاجتماعي.
من جهتها، حاولت الناشطة النسويّة الأكاديميّة نادية صادق العلي استحداث فرع دراسات مختصّ بالمباحث النسويّة في الجامعات العراقيّة على مثال ما هو قائم في الجامعات العالميّة، لكنها لم تلقَ ترحيباً ولا دعماً من قبل الجهات المعنيّة في الحكومة العراقيّة.
وبعد كل هذه الإخفاقات، يحاول الشارع المدني الوقوف في وجه مشاريع التمييز ضدّ المرأة واضطهادها التي تتبناها الأحزاب الدينيّة في الحكومة. وكان آخرها تمرير مشروع قانون الأحوال الشخصيّة في مجلس الوزراء والذي يجيز تزويج القاصرات في عمر التاسعة وتعدّد الزوجات ويعامل المرأة كسلعة جنسيّة في المجتمع.
ويبقى أخيراً أن التيّار المدني الحاوي للحركة النسويّة يشعر بخيبة أمل بالغة. فهو بعد مئة عام من الكفاح من أجل تقدّم المجتمع في الشؤون النسويّة، يعاني إحباطاً ذريعاً. لا بل أكثر من ذلك، إذ ثمّة تراجع عن الإنجازات التي حصلت عليها المرأة سابقاً. وهذا ما يدعو إلى ضرورة دعم هذا التيّار من قبل المؤسسات العالميّة المعنيّة، حتى يستمرّ في مهمّته القاضية بتوسيع نطاق التعليم وتثقيف المجتمع ومواجهة التشريعات التعسفيّة واستبدالها بمقترحات قانونيّة متطوّرة.