البكاء عند أنهار تحتضر
علي بابان، وزير التخطيط العراقي السابق (السبت) 20/10/2012
عندما جئت أكتب مقالي هذا عن إنحسار دجلة و الفرات و النتائج الكارثية التي ستترتب على ذلك فكرت بعنوان ( سيناريو يوم القيامة في العراق) و لكني خشيت أن ألمس رمزا مرتبطا بالعقيدة أو أن اتهم بأثارة اجواء التشاؤم ثم استبدلت العنوان بـ ( العراق..الزلزال القادم) و لكني وجدته لا يقل تشاؤما عن سابقه ثم وقع إختياري على ( البكاء عند أنهار تحتضر ..) .
هذه السطور ليست مرثية لدجلة و الفرات و لكنها جرس إنذار للعراقيين جميعا ليدركوا بشاعة السيناريو الذي نسير بأتجاهه و نتائجه الخطيرة على جميع مناحي حياتنا..هذا السيناريو لم يعد بعيدا عنا بل بات قريبا فما يفصلنا عن عام 2040 أو 2035 ليس سوى سنوات قصيرة لا تعد شيئا في عمر الأمم و الشعوب.
يشخص علم النفس الحديث حالة مرضية إسمها ( إلالقاء في اللاوعي) و مفهومها أن الفرد عندما يقع في مشكلة أو يصاب بمرض و يعجز عن المواجهة و العلاج أو يتهرب منها فأنه يسقط ذلك كله من وعيه و يلقيه في دائرة اللاوعي أو منطقة التجاهل و النسيان ..و يبدو أن بعض المجتمعات مصابة بنفس الداء فهي تتهرب من مسؤولياتها ..و تدفن رأسها في الرمال إزاء المخاطر المحدقة بها ..و تظهر قدرا خطيرا من اللامبالاة و عدم الإكتراث تجاه مصائب جلل تحدق بها..هذا ما نفعله نحن العراقيون بالضبط إزاء مخاطر إنحسار دجلة و الفرات و إذا كان من غير الممكن تصور أن أي إنسان يبقى صامتا تجاه إنسان آخر يقبل و في يده موسى لكي يقطع شرايينه..فأن الذي حدث أن دولة العراق و الرأي العام العراقي بقوا صامتين لعقود على عمل هو اشبه بقطع شرايين الدم عن الكيان العراقي.
إذا كانت مصر هي هبة النيل فأن اسمها كدولة لم يستمد من ذلك النهر كما حدث في العراق الذي عرف (ببلاد ما بين النهرين) و (ميسوبوتاميا) في التاريخ القديم، و ليطلق عليه لاحقا العراق و بلاد الرافدين، إذن فالنهرين العظيمين هما و العراق ككيان صنوان لا يفترقان و عندما يغيب النهرين أو يضمحلا يصبح العراق بمفومه المعروف و المتداول موضع تساؤل ، فالنهرين هما مقومات وجود بالنسبة للعراق و ليسا مجرد مقومات رفاه..أو قوة يمكن تعويضها ، و العراق من غير دجلة و الفرات لن يكون ذلك الوطن الذي نعرفه..كما لن يكون ذاك العراق الذي عرفه التاريخ.
منظمة المياه الأوروبية و هي منظمة فنية ذات مصداقية توقعت جفاف نهر دجلة بالكامل في عام 2040 ولا نظن أن هذه المنظمة معنية بنشر التوقعات المفزعة أو ترغب بأساءة علاقة العراق بجيرانه..أما الفرات فلا يبدو انه بحاجة إلى المزيد من التنبؤات السيئة فواقعة الحالي ينبئ عن مصيره القريب فلقد غدا مجرد جدول شاحب اللون في مدننا العطشى..ولا يصعب على من يقرأ الأرقام أن يكشف حجم الكارثة ولا النتيجة التي سنصل إليها في غضون سنوات معدودة.
كثيرون يتوهمون أن إنحسار النهرين سوف لن يتعدى في تأثيراته أوضاع الزراعة ولا يدركوا أن خارطة العراق الحضرية ستتغير بالكامل ..مدن و حواضر ستختفي أو ستكون في حكم الميتة و إن تشبثت بالحياة..و مدن ستنمو نموا سرطانيا و ستحاط بأحزمة الفقر و مساكن الصفيح ..ستتعاظم ظاهرة ترييف المدن بكل ما تحمله من نتائج خطيرة سياسيا و إجتماعيا..و ستتقافز نسب الفقر و البطالة و الإصابة بالأمراض ..و يعشعش الجهل و التطرف و يضرب جذوره..هذا الذي نقول ليس سيناريوها تشاؤميا نبتكره من مخيلتنا و لكنه النتائج المؤكدة للأرقام التي بين أيدينا اليوم و لتطور و نمو هذه الأرقام بفعل الزمن من خلال دراسة منحنياتها و مساراتها.
عام 2040 و هو العام الذي تذكر الدراسات أنه سيشهد جفاف دجلة ( حيث يكون الفرات قد سبقه لذلك) سيكون عدد سكان العراق بحدود الـ 75 مليونا..فمن سيدبر غذاء هذا العدد من السكان..؟؟ و كم ستكون حصة الفرد الواحد من المياه..و من الأرض الزراعية ..؟؟.. إذا كنا اليوم ( و دجلة و الفرات على الوضع الحالي ) قد دخلنا ضمن دول الفقر المائي بحصة مياه تقل ألف متر مكعب للفرد الواحد ( مع تفاوت طفيف في التقديرات) و إذا كان العراق يخسر سنويا ما بين مائة إلى مائة و خمسين ألف دونم من أرضه الزراعية بسبب الجفاف و التصحر ..و مع استمرار الدول المجاورة و على رأسها تركيا بتنفيذ مشروع ( الغاب) الذي يتضمن إنشاء 22 سدا و بسعة خزن تتجاوز 155 بليون متر مكعب من المياه و أن سد ( أليسو ) المقام على نهر دجلة سيحرم لوحده العراق من ثلث اراضيه الزراعية فأنه بهذه المعطيات لا يصعب علينا أن نتصور الصورة القادمة و ( القاتمة )..عراق تعاني مدنه و زراعته العطش و الجفاف و يحصل مواطنه على حصة فقيرة من المياه لا تسد رمقه و احتياجاته و اقتصاد يعجز عن توفير لقمة الغذاء لل75 مليون عراقي حتى لو وجه عائدات النفط كلها لإطعام مواطنيه..سيكون هناك صراع داخلي شرس على موارد المياه يضيف تهديدات إضافية للكيان العراقي و يزيد من عوامل إنقسامه و تفتته ، سيبرز مجددا ما يعرف في العراق بصراع ( الصدور و البزايز) حيث ستحرص المحافظات التي تستلم الإيرادات المائية اولا ( الصدور) على أن تحتفظ بتلك الإيرادات المتناقصة اصلا لإستخداماتها فيما ستعترض محافظات ( البزايز) على ذلك و تتفاقم فيها المشكلة و الحاجة إلى المياه.
يعلمنا علم الإجتماع السياسي بأن نشوء أولى الدول التي عرفها العالم على ضفاف الأنهار في الحضارات القديمة ( مصر و العراق ) جاء بفعل حاجة الناس إلى حكومات قوية تتولى عملية توزيع حصص المياه فيما بينهم و منع التنازع حولها و من هنا قامت الحكومات التي تحولت لاحقا إلى ديكتاتوريات و تأليه للحاكم صنعه الناس بأرادتهم لحاجتهم إليه و لذلك نشأت في التاريخ ما عرف بظاهرة ( الفرعونية ) أو ( تفرعن الحاكم..) و من هنا لا بديل للعراق عن مركزية (إدارة الملف المائي) و ( إدارة الملف النفطي) لأنه في غياب هذه المركزية ستحصل الفوضى و النزاعات وصولا إلى ( الصوملة).
العراقيون القدامى تعاملوا مع الأنهار و نظروا لها بقدسية فقد كانت مصدر رخائهم و مبعث الحضارات التي شادوها و كان البابليون يعتقدون أن الفرات إلها و حينما يغضب على رعيته يعاقبهم بالطوفان و كانت هذه الرعية تنذر إليه و تتضرع له لئلا يغضب عليها و قد عثر على رقم بابلي فيه خطاب موجه إلى نهر الفرات جاء في: (أيها النهر يا خالق كل شيء ، حينما حفرتك الآلهة العظام قد اقاموا أشياء طيبة على شطآنك و أنعموا عليك بفيض من المياه لا نظير له و النار و الغضب و الجلال و الرهبة، انت الذي تقضي بين الناس).
و عندما جاء الإسلام و أشرقت أنواره على هذه الأرض تنزلت سور القرآن لترسخ في وجدان المسلم ارتباط المياه بالحياة بكل انشطتها و مظاهرها و أن فقدان المياه يعني فقدان الحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حيا) و الماء هو الذي يحيي (البلدة الميتة) و مثل هذه الصورة و المعاني مبثوثة في سور التنزيل بما يكرس قانون الترابط بين حياة المدن و المياه. والنبي صلى الله عليه و آله و سلم يذكر نهر الفرات كأحد أنهار الجنة وفي حديث آخر يشير إلى أنه سينحسر عن كنز من الذهب .
لو جئنا ندرس الجغرافيا السياسية للعراق (الجيوبولتيكا) نجد أن هناك ثلاث حقائق كبيرة تطل برأسها أو لنقل (ثلاث نقاط ضعف) واضحة تبرز للعيان ..أولها أن معظم أنهار العراق أو إيراداته المائية تأتي من خارج أرضه ..ثانيها..أنه لا يملك إطلالة واسعة على البحر، وثالثها أنه محاط بجيران أقوياء هما (تركيا و إيران) ..هذه الحقائق أو نقاط الضعف ينبغي لها على الدوام أن تبقى أمام أنظار من يخطط لنظرية الأمن الوطني للعراق أو لمن يرسم سياسته الخارجية لكي يضبط بوصلة تحركه باتجاهها أو باتجاه تلافي و تقليص تأثيراتها الضارة، أحد مؤسسي الدولة العراقية الحديثة وهو السيد نوري السعيد رئيس الوزراء الأسبق رحمه الله، والذي يعتبر ابرز سياسيي الحقبة الملكية كان على ما يبدو واعيا لأهمية دجلة و الفرات (للبعد المائي) في الإستراتيجة الوطنية العراقية ولذلك نراه يولي وجهه شطر تركيا و إيران و يسعى لإقامة تحالف إستراتيجي معهما و الذي ابتدأ بإتفاق مع تركيا باسم الميثاق التركي – العراقي عام 1955 ثم تبلور إلى حلف بغداد الذي ضم إيران و باكستان لاحقا بعد فترة قصيرة ، لا أظن أن دجلة و الفرات و ضرورة تأمين مواردها من خلال علاقة طيبة مع جيرانه كانت غائبة عن فكر و دوافع ذلك السياسي العراقي المخضرم الذي اختلف العراقيون كثيرا حول شخصيته وسياساته و لقى معارضة كبيرة من مصر الناصرية وقتها التي رأت أن عراق نوري سعيد سيكرس زعامته للعالم العربي على حسابها.
مصر التي تعيش وضعا مائيا يشبه إلى حد كبير حال العراق من حيث كون نهرها ينبع من خارج أرضها ومن حيث إقتران حضارتها و إزدهارها بالنيل ، تعاملت سياستها الخارجية بكفاءة أكبر مما عملنا نحن في العراق فيما يتعلق بالملف المائي وكان النيل باستمرار أحد موجهات سياستها الخارجية و من أهم عناصر تشكيلها ، الرئيس عبد الناصر تحدث في كتابه فلسفة الثورة عن ثلاث دوائر للسياسة المصرية وهي الدائرة العربية و الدائرة الإسلامية و الدائرة الإفريقية و لم يتردد في الإفصاح عن سبب الاهتام بافريقيا هو النيل الذي ينبع من أرضها، الدبلوماسية المصرية نجحت في وقت مبكر من القرن المنصرم في عقد الإتفاقيات مع الدول المتشاطئة على النيل و التي تعد عشرة دول و ذلك لكي تضمن حصة الأسد من إمداداته لا بل أنها نجحت في أن تمنع أي دولة على النيل من القيام بأي مشروع عليه و أن تحظى بحق الفيتو على ذلك لكن هذا الوضع بدأ بالتغير بالسنوات الأخيرة بسبب تحسن وضع الدول الأفريقية المتشاطئة مع مصر من الناحية السياسية والإقتصادية و تنامي حاجاتها لمياهه و تأتي اثيوبيا على رأس هذه الدول.
منذ عهد رئيسي وزراء تركيا سليمان ديميريل وتورجوت اوزال في ثمانينات القرن الماضي و ما بعده في حقبة التسعينات سارت تركيا بخطى واسعة على طريق إقامة المشاريع على نهري دجلة والفرات علما أن فكرة مشروع ( الغاب) التركي تسبق حقبة هذين السياسيين، كان سليمان ديميريل يرد على اعتراضات العراق و سوريا بالقول أن هذين النهرين ينبعان من أرضنا و هما ملك لنا كما ان النفط الذي هو في أرضهم ملك لهم، أما تورجوت اوزال فكان صاحب نظرية ( كل برميل ماء ببرميل بترول).
و السؤال الذي يبرز هنا هو أين كانت الدولة العراقية وأين رد فعلها عندما كان مشروع الغاب في بواكيره..؟؟ الجواب هنا بكل وضوح أن الدولة العراقية ومنذ مطلع الثمانينات موضوعة في ( غرفة الإنعاش) و مصيرها معلق بين السماء و الأرض..فهي إما منغمسة في حرب ضروس كما حدث مع إيران في الأعوام 1980 -1988..و إما قابعة تحت حصار دولي غاشم طيلة حقبة التسعينات و حتى عام 2003..أو دولة تحت الاحتلال ومجتمعها تعصف به الحرب الأهلية والإنقسامات .
ضعف الدولة العراقية اغرى دول الجوار للإقتئات على حقوق العراق المائية ولا زال يغريها بالمزيد طالما بقى الإنقسام ..و الصراع يفتك بالمجتمع العراقي و يكبل يد الدولة عن حماية حقوق العراق و الدفاع عنها..ساسة العراق منشغلون بفرعيات المسائل ..و هوامش القضايا عن عظائم الأمور..و التحديات الخطيرة و الكبيرة التي تحدق بالكيان العراقي، الدولة العراقية بكل صراحة وفي ظل الوهن الذي يستشري في مفاصلها بسبب الخلافات السياسية أعجز من أن تسلط ضغطا على أية دولة من دول الجوار من أجل حماية حقوقنا في دجلة و الفرات..كأني بتلك الدول التي ترقب ضعفنا و انقسامنا و ترسل لنا مياه بزلها أو فضلات المياه التي استخدمت في الري على أرضها تردد قول الشاعر الجاهلي عمرو ابن كلثوم حين يقول:
و نشرب إن وردنا الماء صفوا..
و يشرب غيرنا كدرا و طينا
أما العراقي فهو بدوره يردد أبياتا للشاعرالمصري حافظ إبراهيم حين يشكو
أمن العدل أنهم يردون
الماء صفوا و أن يكدر وردي
أمن الحق انهم يطلقون
الأسد منهم و أن يقيد أسدي
و هذا هو حال العراقيين اليوم ..أسود عاجزة عن الحركة والدفاع عن مصالح وطنها بعد أن انهكتها الصراعات و الأحقاد الداخلية و أطاحت بكيانها الإنقسامات والتنافسات و هو مما لا نراه في أي دولة حيث لا يمكن لصراعات السياسيين أن تمنع الإتفاق على حماية المصالح العليا للمجتمع ولا يمكن لأي خلافات فيها أن تتجاوز خطوطا حمراء عندما يتعلق الأمر بأمن المجتمع و حقوقه الأساسية و مستقبل مواطنيه .
التفريط ..و الإهدار ..و المظلومية هي العناوين الكبرى والعريضة لحياتنا نحن العراقيين..فيما بيننا وفي داخل مجتمعنا من جهة ..و فيما بيننا و بين المجتمع الخارجي بأقاربه و اباعده من جهة آخرى..
لا أجد ما اختم به هذه السطور سوى أن اقتبس من كتاب ( ميزوبوتاميا- موسوعة البيئة العراقية) التي أشرف على كتابته نخبة من العلماء و الخبراء العراقيين و أعده السيد سليم مطر، ففي مطلع الكتاب تجد و تحت عنوان ..إلى أجيال العراق القادمة:
(اغفروا لنا خطايانا بحقكم، إذ نورث لكم بيئة بلادنا الخربة، ضيعنا النفط أكبر ثروات و مكارم بيئتنا في حروب و مشاريع طائشة، تركنا أنهارنا و اهوارنا تجف، وهوائنا يتلوث بالأشعة والسموم القاتلة ، و مزارعنا و بساتين نخيلنا الباسق تضمر، و آثارنا و أراضينا تصبح مقابرا للقمامة والألغام و الأسلحة الفتاكة .لكننا رغم كل هذا نمتلك كل الثقة والأمل في خصب النهرين الخالدين وأرواح أسلافنا صانعي الحضارات العظيمة هي التي ستبقى إلى الأبد تغذي شعلة الحياة و الخلاص في الأجيال القادمة، فتموز مهما عطش و مات، إلا أنه لن يكف عن الإنبعاث من جديد حاملا الحياة و الخصب و الخضرة إلى بيئتنا )) انتهى الأقتباس.
يا ترى هل ستقبل الأجيال القادمة من العراقيين هذا الاعتذار ..؟؟
و كيف سيكون حال تلك الأجيال عندئذ..؟؟
مجموعة العراق فوق خط احمر