العراق.. أربعة مدنيين خطوة إلى الأمام
د. رشيد الخيّون – المجلة
لم أقفز على الواقع المعاش وأتوقع فوزاً ساحقاً للتيار المدني، فقد ظل العدد الذي قدرته بفوز مناسب لهذا التَّيار يتراوح بين أربعة إلى خمسة مقاعد لا أكثر، ولم أُوخذ بالتقديرات التي تحدثت عن توقع فوز بالعشرين إلى الثَّلاثين معقداً. فهذا العدد، ثلاثة رجال وامرأة، وفقاً للواقع العِراقي الرَّاهن أحسبه نموذجاً. لذا لم أُفاجأ بهذه النِّسبة، ولا بنسبة الإسلاميين الفائزين. كذلك كان تراجع أعضاء مِن حزب الدَّعوة الإسلامية، وخروجهم مِن البرلمان، متوقعاً، فمَن يرى الدِّعاية الانتخابية الضخمة للأقرباء والأصهار يطمئن بأن النتائج أتت موافقة للمقدمات.
لا يهمنا مِن أية جهة أتى هؤلاء المدنيين، مِن يسار أو يمين أو وسط، بقدر ما يهمنا موضع القدم في البرلمان، مِن خارج التَّيار الإسلامي، سوى كان سُنياً أو شيعياً وتحت عنوان “التَّيار المدني”. فاقتحام البرلمان مِن قِبل مواطنين عُزل مِن دعاية انتخابية وادعاءات طائفية ودينية، يُعد شبه معجزة. فماذا يملك هؤلاء أكثر مِن صفحات “الفيسبوك” وقليل مِن حسابات “تويتر”، غير النَّشطة داخل العِراق، وإيميلات المعارف والأصحاب، مقابل ما عند الآخرين مِن رايات الدين الطائفة والمال الفائض.
إنها معجزة انتخابية أن يصعد هؤلاء إلى البرلمان العِراقي بلا فضائية، وبلا موكب حسيني، وبلا منبر مسجد أو حُسينية، وبلا عمائم أو ولائم! ماذا عند هؤلاء الأربعة يقدمونه كي يجلبوا ألوف الأصوات المؤهلة لتجاوز عتبة البرلمان؟ كيف عبروا عن أنفسهم، مقابل إمكانيات الميزانية العراقية، وقد وصلت إلى مئة وخمسين مليار دولار لا دينار؟ بماذا يقنعون الناخب مقابل الآلة الحكوميَّة، وقد ضمنت أكثر مِن مليون صوتاً، هي أصوات القوات المسلحة، فالسبعمائة ألف التي فاز بها نوري المالكي، لو كُشف عنها، لظهر أن جلها مِن الجيش والشرطة، ومعلوم ماذا تعني الأوامر والحوافز العسكرية، ولو حصل أن حُجب عن القوات المسلحة التصويت مثلما حصل بمصر لظهر واقع الحال.
هل لدى الأربعة، وهم الفائزون مِن التَّيار المدني، أراضٍ كي يوزعونها على النَّاخبين؟ أم هل لديهم وظائف يختم بإنجازها الأصهار والأقارب؟ ناهيك عن تأثير السُّلطة في النفوس، والتي تُبث بعدد مِن الفضائيات، ومنها الفضائية التي مازلت تُقدم نفسها على أنها للعراقيين كافة، ويُصرف عليها مِن بيت المال.
اعتبر فوز الأربعة مِن التَّيار المدني نجاحاً باهراً، وأقيس ذلك على واقع العِراق، الذي تهيمن عليه الخرافة والشَّعوذة، وخطاب أن المعركة مازالت قائمة بين الحسين ويزيد، وخطاب المواجهة الطائفية، وعسلها المسموم السائل في الأفواه، فهو شعار مازال جذاباً يستهوي البسطاء، الذين لم يصحوا بعد مِن ذهولهم مما حدث ويحدث. لا غريب ولا عجيب فوز الذي قدم نفسه مختار العصر، مِن دون أن يقف قاضٍ أو مؤتمن على الدستور ويعترض على هذا التشبيه، الذي يُعمي العقول ويُذكي الثارات؟
لكنَّ الغريب والعجيب والمدهش حقاً أن يصعد إلى البرلمان العراقي، وسط هذه اللفائف (العمائم) المعتمرة فوق الرؤوس وفي الصدور، أربعة مِن التيار المدني، أقصد أنهم قدموا أنفسهم ممثلين عن طُلاب الدَّولة المدنية، إنها وقفة تستحق الاعجاب أن تجد بالعراق، على الرَّغم، مِن دوي الخطاب الدِّيني والطَّائفي، الألوف ممَن خرجوا على هذا الخطاب، بعد أن جربوا الإسلاميين ومنطقهم الطَّائفي. فالحالة تشبه ما صوره الشَّاعر في شأن وجداني، وهو أبو نواس (ت 198 هـ)، عندما قال: “حامل الهوى تَعبُ/ يستخفه الطَّربُ/ إن بكى يحقُ له/ ليس ما به لَعبُ/ تضحكين لا هيَّة/ والمحبُ ينتحبُ/ تعجبين مِن سقمي/ وصحتي هي العجبُ”(سير أعلام النُّبلاء).
الشَّاهد مِن هذا القصيد البيت الأخير. فهناك مَن يعجب لفوز هذا العدد النزير، مِن تيار يحسبون عليه أنه بدأ منذ العشرينيات بالعراق! وأنا أقول، بعد النَّظر في الواقع العراقي والنظر في الوجوه القابضة على السُّلطة ومنافسيها الكبار أيضاً، وما بيدها مِن مال وسلاح، وما معها مِن دول عِظام، وما يحرسها مِن ميلشيات، في السر والعلن، إن الفوز هو العجبُ.
بطبيعة الحال، لا أُلغي وجود مدنيين، غير خُلصاء للفكر السِّياسي الديني، داخل الأحزاب والتكتلات الدِّينية، فهناك جماعات وأحزاب وشخصيات تمثل مشاريعها، لكنها لا تمثل ما نشخصه بالتيار المدني المفلس مِن المال والسلاح والسلطة، ومِن أي صلات دولية أو إقليمية، فلو كانت هذه الصِّلات موجودة لظهرت في الدِّعاية الانتخابية جلية، فالمال والجاه لا يخفيان. تلك هي نشوتي مِن نتائج الانتخابات، أن ألوفاً تقف مع مشروع الدَّولة الوطنية، أو مع دولة المواطنة، التي هتكها الإسلاميون بطائفيتهم، والأخيرة ليست حقيقية إنما بضاعة أو وسيلة لاغتنام الغنيمة.
صحيح أن العدد كان نزيراً جداً، وصحيح أن المراهنة على هؤلاء الأربعة مِن أن يبقوا مدنيين لفترة أربع سنوات قادمة، تبدو غير منطقية، لكنَّ ألوف تقدمت وراهنت على الرَّغم مِن بؤس الحال. فقد قُمع الصَّوت الذي ارتفع داخل البرلمان ضد الفساد، قُمع بالاجتثاث، وجرت المحاولة باجتثاث أحد الأربعة، والزَّمن والسلطة والحسين المرفوع رايَّة، ضدهم، ومع ذلك دخلوا البرلمان. عندما أقول الحُسين أعني به المرتهن في مواكب هؤلاء المتاجرين. هؤلاء الذين يُحق عليهم القول المنسوب للقاضي عبد الله بن شبرمة الكوفي (ت 144 هـ): “رأيتُ فقه رجالٍ في قلانسهم/ وفي ثيابهم الفحشاء والرِّيب”(الزَّمخشري، ربيع الأبرار وأخبار الأخيار)، وهل هناك فحشاء أكثر مِن نهب المال، وقتل الحلم بالديمقراطيَّة، مِن إفساد القضاء، وإقصاء أهل المعرفة والنَّزاهة؟
أقول للذين انتخبوا هؤلاء الأربعة، باسم التيار المدني لا بأسمائهم، وهم في دعايتهم الانتخابية كانوا فقراء مدقعين، قدمتم الكثير وقليلكم، في هذه السنوات الحالكة مِن تاريخ العِراق، المعمية بالخرافة والجهل وضياع الضمائر، “لا يُقال له قليل”. لا تظنون أن الاستشهاد بالبيت: “قليل منك يكفيني/ ولكنَّ قليلك لا يقال له قليل”، فيه هجاء لهذا الشَّعب المبتلى إنما هو المدح بعينه، فما تعرض له هذا الشَّعب مِن هزات، سابقة ولاحقة، وبينه ألوف تحلم بدولة مدنية، يعني أنه مازال حيَّاً.