العراق فشل في إنجاز مشروع عدالة انتقالية
علی معموري – المونيتر
تعدّ العدالة الإنتقالية مرحلة مهمة وحاسمة بالنسبة للمجتمعات المتحررة من عهد طويل لحكم ديكتاتوري او عنصري وما شابه ذلك. وفي حال لم تتم العدالة الانتقالية بشكل صحيح سيواجه المجتمع ردود فعل متسلسلة للعنف بين مختلف أطياف الشعب. وفي كثير من الأحوال تنقلب علاقة الجلاد بالضحية وتؤدي مشاعر الإنتقام والثأر بانتهاكات أخرى تكثف وتعمق موجات العنف في البلد. وهذا هو ما يبدو حصوله في العراق ما بعد 2003.
تتجاوز أهداف العدالة الإنتقالية مجرد محاكمة وعقوبة المرتكبين للمجازر البشرية الكبرى في البلد لتشمل مشروع كامل لتحقيق المصالحة الوطنية في بلد قد فقدت طوائفه الثقة بينها من جهة وبين الشعب كله ومؤسسات الحكومة من جهة أخرى. هذا مضافاً لتعويض المتضررين من كل مختلف الطوائف وتخليد ذكر المجازر الواقعة والتمهيد لعدم تكرارها في المستقبل.
وأما في العراق، رغم أنه قد تمّ محاكمة مرتكبي الجرائم البشرية في عهد حكم البعث، ولكن قد تعثّرت الإجراءات اللازمة الأخرى لتحقيق العدالة الإنتقالية بشكل كامل. فما زالت بعض الإجراءات التعسفية وغير القانونية المتبقية من عهد النظام السابق سارية في العراق الجديد. هناك تقارير عديدة من اعتقالات جماعية في المناطق السنية او قصف عشوائي على المناطق التي تصدر منها اطلاقات نارية ضد الجيش.
وفي حوار للمونيتور مع إمام جامع ابوحنيفة في منطقة الأعظمية ببغداد الشيخ عبدالستار عبدالجبار، قال بأننا كنا غير راضين مما كان يحصل في عهد صدام من اعتقالات جماعية، وها نحن نشاهد تكرارها اليوم في مناطقنا السنية. ويسجن المعتقلون دون محاكمات
ولم يتم اطلاق سراحهم غالباً الا بعد تقديم مبالغ كبيرة من قبل عوائلهم بشكل رشاوى تدفع للضباط. وقد التقى المونيتور ببعض تلك العوائل في بغداد، منها: عائلة سجنت أحد أبناءها دون إثبات أي جريمة ضده، ولم تحصل على حق لزيارة ابنها في السجن. وقد إضطرت أخيراً الى دفع 60 الف دولار أمريكي لأحد المسؤولين عن ملفه ليتم اطلاق سراحه. والغريب أن دفع الأموال هذه تتمّ عادة بشكل رسمي عن الطرق المصرفية مما يعني أن المتقاضين لتلك الرشاوي لا يخافون من عواقب أفعالهم او متابعات قانونية احتمالية ضدهم.
وفي مجال التعويض للمتضررين من جرائم النظام السابق هناك الآلاف من العوائل التي تنتظر النظر في معاملتها في مؤسسة السجناء السياسيين المختصة برعاية شؤون هذ الشريحة من المتضررين. وقالت السيدة ندى من البصرة للمونيتور بأنها قد تمّ سجنها برفقة أمها وأختها حين كانت في الثالثة من عمرها وقضت في سجون النظام السابق اكثر من ثلاث سنوات، وأنها قد قدمت معاملة الحصول على التعويضات وهي تنتظر النظر في معاملتها منذ اربعة سنوات دون تحقق أي تقدم أو إنجاز. هذا في حين أن نواب البرلمان المنقضية دورهم قد صوتوا ابتداء هذا العام على قانون المعروف بالخدمة الجهادية والذي يخصص إمتيازات واسعة للمنتسبين للأحزاب السياسية الاسلامية وخاصة نواب البرلمان انفسهم إزاء السنوات الذي قضوه في مكافحة النظام السابق. وقد أغضب هذا القرار السيد السيستاني حيث انتقد من لا يعمل إلا لمصلحته الشخصيّة ومصلحة جماعته من بين المسؤولين وينسى مسؤولياته بخصوص خدمة الشعب.
وفي مجال معرفة الحقيقة، ما زالت الملفات الجنائية الكبرى في العراق مفتوحة ولم يتم أي تحقيق يذكر بخصوصها. ما زال العراقيون لا يعرفون المرتكبين للمقابر الجماعية؟ وقتل الطيارين العراقيين في ما بعد 2003؟ وتفجير سامراء الذي أشعل الفتنة الطائفية؟ وقتل اكثر من 300 صحفي وناشط مدني؟ وأصحاب المسدسات الكاتمة؟ وغير ذاك من الأمثلة التي لا تحصى ولا تعد!
وقد حصل العراق على استشارات وتوصيات من قبل مؤسسات عالمية مثل ICTJ بخصوص إدارة العدالة الإنتقالية في البلد في مجال إجراء المحاكمات والملفات المرتبطة الأخرى ولكن يبدو أن الحكومة العراقية لم تعتني بها أساساً.
ومن جهة أخرى قد سبب الوضع الطائفي انخراط بعض مؤسسات الدولة في التعامل المزدوج مع موضوع العدالة الإنتقالية مما سبب استمرار العنف واشتداده في السنوات الماضية. وأبرز مثال على ذلك هو كيفية تعامل الحكومة مع الميليشيات الشيعية والسنية. فبينما يتم استهداف الجماعات المسلحة السنية بوصفهم مجموعات ارهابية، يغض النظر عن إخواتها الشيعية بل إن بعضها كعصائب أهل الحق تحظى بدعم من حكومة المالكي وتقيم مهرجاناتها بحرية كاملة في بغداد وهناك أنباء عن مشاركتها في القتال في سورية والأنبار.
وقد أدى توالى دورات العنف في العراق الى تعقيد مشروع العدالة الإنتقالية حيث تبادل الجلاد والضحية أدوارهم، ما سبب في تعميق الهوة بين الطوائف العراقية وصعوبة حلّ الملفات المرتبطة بتحقق العدالة. وفي هذا البين هناك شريحة كبيرة من العراقيين قد أصبحوا ضحية لكل الأطراف المشتركة في دوامة العنف. فمن باب المثال قد فقد الشيخ عبدالستار إثنان من إخوته على يد القاعدة وأولاده على يد ميليشيات شيعية وقد اعتقل نفسه من قبل القوات الحكومية.
وما يستنتج مما مضى هو أن العدالة الإنتقالية في العراق لم ينظر اليها بشكل مشروع كامل للعبور من الديكتاتورية لنظام ديمقراطي عادل؛ بل قد تمّ التعامل معها بشكل إنتقائي. فقد تمّ التركيز على المحاكمات وإجراء العقوبات، ولكن قد تركت الأمور الأساسية الأخرى، بل قد أدى سوء استخدام هذا العنوان الى جرائم أخرى باسم العدالة.