بين قوانين موروثة من الحقبة الدكتاتورية وتشريعات تسعى لتكبيلها: حرية التعبير والصحافة في العراق.. واقع لا ينسجم مع مبادئ الديمقراطية!
أعداد: ياسر السالم
المدير التنفيذي لجمعية الدفاع عن حرية الصحافة
مقدمة
بين قوانين موروثة من الحقبة الدكتاتورية السابقة، لا تراعي مبادئ الديمقراطية، وبين انتهاكات واعتداءات تنفذها جهات مختلفة، من بينها السلطات العراقية، يعيش النشطاء والصحفيون العراقيون أوضاعاً صعبة للغاية تحد من نشاطهم مرة وتزج بهم إلى التهلكة في مرات عديدة.
وخلال عشر سنوات بعد التغيير عام 2003، اجتهد الناشطون في مجال حرية التعبير من أجل توفير بيئة قانونية تحميهم من الانتهاكات، لكن في كل مرة كانوا يواجهون قمعاً وتهميشاً في الطبقة السياسية صاحبة النفوذ في البلاد.
وهذا لا يعني أن حرية التعبير في العراق منعدمة تماماً، فتلك الفسحة من الحرية التي توفرت بعد عام 2003، لم تكن نتيجة وضع طبيعي ينشأ داخل الأنظمة الديمقراطية، بل كان نتيجة حالة الفوضى السياسية والمؤسساتية والأمنية التي تعم البلاد.
أولاً: واقع حرية التعبير بعد أحداث 10 حزيران
بعد استيلاء مسلحي “الدولة الإسلامية” على مدينة الموصل، ومن ثم تنفيذ هجمات عديدة وسيطرة على مساحات واسعة من أراضي عراقية، سجلت مؤشرات الانتهاكات التي وثقتها جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، ومنظمات أخرى، ارتفاعا ملحوظاً في الفترة بين 10 حزيران 2014، و1 تشرين الثاني من العام نفسه.
فقد واجه الصحفيون العراقيون والنشطاء المدنيون أوضاعاً صعبة، وكانوا، ولا يزالون هدفاً ملاحقاً من قبل التنظيم الإرهابي، الذي أختطف عدداً ممن لم يتمكنوا لأسباب عديدة، من الهرب خارج مناطقهم، ثم تعذيبهم و قتلهم.
ولم يكتفِ المسلحون بذلك، بل وعمدوا إلى اختطاف ذوي بعض الصحفيين والنشطاء وتفجير أو الاستيلاء على منازل تعود لهم ومصادرة كل مقتنياتهم.
وقد حصلت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، بتاريخ 14 أيلول 2014، على بيانات مؤكدة أصدرها تنظيم “داعش”، تحرض عناصره على تصفية الصحفيين المتواجدين في محافظتي نينوى وصلاح الدين ومصادرة جميع ممتلكاتهم بحجة “قيامهم بتضليل صورة الدولة الإسلامية لصالح الحكومة العراقية”، وفق نص البيان. وإضافة إلى الصحفيين فقد أقدم التنظيم على ملاحقة الناشطين المدنيين، وتعذيبهم أو قتلهم.
وفي المقابل، لم يكن “داعش” هو التنظيم الوحيد الذي مارس الجريمة بحق الصحفيين والنشطاء، بل أن المجاميع المسلحة والميلشيات التي أخذ نشاطها يظهر للعلن ويتسع، وتأخذ دوراً متزايداً، بفضل الغطاء السياسي الذي توفره الحكومة لها، كان لها دور كبير ايضاً في التضييق على حرية العمل الصحفي.
فقد وردت تقارير عديدة ومؤكدة تفيد بأن هذه المجاميع قامت بالتعرض إلى الصحفيين ووسائل، ومنعهم من تغطية بعض الأحداث، أو انتقاد نشاطها المسلح، وكان ذلك وفق سياسة الترهيب. حتى أن بعض الصحفيين الذين يعملون في المحافظات والمناطق الآمنة (تحديداً المحافظات الجنوبية) أجبروا على ترك المهنة، أو الانتقال من مؤسسة إعلامية إلى أخرى، بهدف الحفاظ على حياتهم وحياة عائلاتهم. ومعظم هؤلاء الصحفيين لا يبوحون علانية بالاعتداءات والانتهاكات التي يتعرضون لها، خوفاً من ملاحقتهم. في حين فضل بعض الصحفيين الهجرة إلى خارج البلاد. ولم تكن وسائل الإعلام بمعزل عن هذه الانتهاكات.
ثانياً: جهات عديدة تمارس الانتهاكات
أن حرية الصحافة في العراق تواجه مخاطر متعددة من أطراف سياسية وحكومية وأمنية وقوى إرهابية وميليشيات، وحتى قوى خارجية. ساهمت جميعها في تزايد مستوى الانتهاكات.
فخلال هذه السنة وقبل أحداث العاشر من حزيران، كانت الحصيلة استشهاد (24) صحافياً في مناطق مختلفة من العراق. غير أن محافظتي نينوى والانبار كانتا الأكثر في عدد الضحايا.
وأبرز الاستهداف التي تعرضت لها المؤسسات الإعلامية من قبل مجاميع مسلحة، هي تعرض صحيفة “الصباح الجديد” إلى الإغلاق بسبب هجوم مجموعة ميليشياوية على مقرها وتفجير 3 عبوات ناسفة عند بابها، بسبب “بروتريه” نشرته لأحدى الشخصيات الدينية في المنطقة، ما دفع بكادرها إلى مغادرة العاصمة بغداد والاختفاء، حتى أن رسام الكاريكاتير أحمد الربيعي، الذي رسم البورتيه المذكور توفي في 12 آذار 2014، في أحدى مستشفيات اربيل بإقليم كردستان.
وتعتقد جمعية الدفاع عن حرية الصحافة أن للسلطات لإيرانية دور في وفاة الزميل الربيعي، حيث أن المستشفى الذي توفي فيه الربيعي رفض تسليم الجمعية أو أي جهة أخرى تقريراً طبياً عن أسباب الوفاة، وهو أمر يضع علامة استفهام كبيرة على أسباب وفاته.
وبرزت خلال الفترة السابقة أيضاً، عودة ظاهرة اعتداء حمايات المسؤولين على الصحفيين والإعلاميين وتهديدهم بين آونة وأخرى. وابرز الحالات التي سجلتها الجمعية هو مقتل الصحفي محمد بديوي الشمري مدير مكتب إذاعة العراق الحر في بغداد، على يد ضابط في الفوج الرئاسي بتاريخ 23 آذار 2014.
ثالثاً: التغطيات الصحفية
بقيت سياسية التمييز أساساً في تعامل السلطات العراقية مع وسائل الإعلام، في شأن التغطيات الصحفية. فالقرار الذي صدر قبل سنوات من قبل مكتب القائد العام للقوات المسلحة (المنحل)، بمنع أي وسيلة إعلام من التغطية الميدانية دون تخويل من قيادات العمليات في المحافظات، كان قراراً معرقلاً للعمل الصحفي.
فالتخاويل تصدر لمؤسسات إعلامية دون أخرى، ويعتمد ذلك على مدى اتفاق الوسيلة الإعلامية مع سياسة الحكومة أو معارضتها لها. وقد تعرض العشرات من الصحفيين للمضايقات أو الاعتداء أو الاعتقال نتيجة سياسة التمييز تلك.
كما منعت السلطات الأمنية العراقية، العديد من الصحفيين من التغطية الإعلامية الميدانية للعمليات العسكرية الجارية في مناطق شمال وغرب البلاد. في حين سمح لصحفيين يعملون في وسائل إعلام مقربة من رئاسة الوزراء في مرافقة القوات الأمنية وتغطية الأحداث. وسجل صحفيون في تقارير إعلامية عدة انتقادات للسلطة في هذا الشأن، دون أن يصدر أي إيضاح من قبل الحكومة.
رابعاً: تغير الحكومة.. لا تغيير في النهج بعد !
وبالرغم من الاستبشار خيراً مع تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في نيسان 2014، إلا أنه لم تتضح بعد وجهتها في شأن التعامل مع قضايا حرية التعبير والإعلام. وتعتقد جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، أن رغم تغيير الوجوه والأسماء، إلا النهج السابق في التضييق على حرية التعبير مستمر، وربما يستمر بسبب أن القوى التي تشكلت منها الحكومة هي ذاتها القوى التي حكمت البلاد طيلة السنوات السابقة.
كما أن رئيس الوزراء الجديد الدكتور حيدر العبادي، هو قيادي في الحزب نفسه الذي ينتمي له رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي نوري المالكي. ورغم وصول عدد محدود من الشخصيات المدنية والديمقراطية إلى مجلس النواب، إلا تأثير وقوة هؤلاء النواب سيكون محدودا مع هيمنة قوى الإسلام السياسي على السلطة والقرار السياسي.
خامساً: البيئة القانونية.. خطرٌ دائم !
بعد التغيير في عام 2003، أبقت السلطات العراقية على جملة تشريعات ومواد قانونية شرعها النظام السابق، بقصد التضييق على حرية التعبير وخاصة حرية الصحافة.
ومن هذه القوانين السارية المفعول رغم أنها تدخل ضمن القوانين السالبة للحرية، هي مواد جرائم النشر في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، قانون المطبوعات، قانون نقابة الصحفيين العراقيين، قانون وزارة الإعلام لسنة 2001، ما يمثل خطراً حقيقياً على حرية التعبير وحرية الصحافة في العراق.
وبدلاً من المضي في إلغاء هذه التشريعات المتعارضة مع الدستور والمواثيق الدولية التي وقع عليها العراق، والخاصة بحقوق الإنسان، لاسيما حق حرية التعبير والصحافة، فقد لجأت الحكومة ومجلس النواب، إلى الدفع بقوانين جديدة تكرس قمع هذه الحقوق.
فما يسمى ب”قانون حقوق الصحافيين” الذي شرعه البرلمان في اب / أغسطس من عام 2011 ، يمثل تحديا كبيرا وخطرا حقيقيا على حرية الصحافة بصورة خاصة وحرية التعبير بصورة عامة، لاسيما وان هذا القانون يحتوي على 5 مواد شرعنت العمل بالقوانين الموروثة من الحقبة السابقة.
سادساً: الجهود المبذولة لحماية حرية التعبير والصحافة
لقد واجهت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، إلى جانب منظمات ناشطة في العراق، الواقع الصعب لحرية العمل الصحفي المشار له أعلاه بعدد من الحملات والأنشطة يمكن إيجازها في ما يلي:
- رصد الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون، وتوثيقها وعرضها أمام الرأي العام، وملاحقة المنتهكين قانونياً عبر فريق قانوني مختص ينشط ضمن الجمعية.
- الدفاع القانوني عن الصحفيين الذين يواجهون تهماً قضائية تتعلق بالنشر والتغطية. والسعي لتخليصهم من التهم التعسفية.
- الاستمرار في حملة “إصلاح البيئة القانونية لحرية العمل الصحفي” التي تهدف إلى إلغاء وتعديل التشريعات القانونية غير المنسجمة مع الدستور العراقي والقوانين الدولية، ومنع تشريع قوانين جديدة مكبلة لحرية التعبير.
- عقد ندوات وورش متنوعة الموضوعات في عموم محافظات العراق، لتعريف وتوعية الصحفيين بالمخاطر التي تواجه عملهم، والاطلاع على المصاعب التي يواجهونها ومؤسساتهم، وبالتالي التنسيق والعمل على مواجهتها.
- تدريب الصحفيين على التغطية الصحفية، وإعداد التقارير والتعامل مع وسائل “السوشل ميديا” في التغطيات.
- التنسيق مع المنظمات المدنية المعنية بحرية التعبير في حملات المدافعة.
- أعداد الدراسات والبحوث الخاصة بحرية العمل الصحفي، والتقارير الحالة.