كُلّ ما حَولنا سياسة، والدليل زكيّة جورج !
في احد الحوارات الشيّقة مع استاذنا الدكتور سليم الوردي قال لي “ليس هنالك مثيل لولع العراقيين بالسياسة، يسيّسون كل ما حولهم” وبقيت عبارته هذه عالقة في ذهني منذ حينها. وصرت اجد نفسي اتوقف عند حوادث ومواقف تصادفني لأمتحن بها هذه المقولة، وفي كل مرة اتاكد من مدى عمقها ومصداقيتها.
قبل ايام وانا اتابع اغاني المطربة العراقية زكية جورج، جذبتني اغنية “يا حافر البير” وهي مأخوذة عن مثل عراقي قديم يقول “ياحافر البير لتغمّج مساحيهة، خوف الفلك يندار وانتة التكع بيهة”. ولفت انتباهي تعليق على موقع تواصل اجتماعي يقول ان اصل هذه الاغنية هو تشفي المسيحيين من سكان قرى مُسلمة هاجموا قرية مسيحية في تلكيف ونهبوها. و كرد فعل )والحديث لصاحب التعليق( ارسلت الحكومة العراقية في وقتها الجيش وعاقبت القرى المسلمة. صاحب التعليق اكد انه سمع بالحادثة من كبار السن، وانه متاكد من ان زكية جورج المسيحية قد غنت هذه الاغنية في حفل ببغداد قصد التشفي بالمسلمين.
بصراحة بداية وجدت ان هذا التعليق فيه اسقاط لما يحصل في يومنا هذا من تزمّت وتعصّب ديني ومذهبي يكتسح العراق والمنطقة بشكل عام، على فترة سابقة كانت لها ظروف مختلفة. ولكن بنفس الوقت راودني بعض الشك. فالفترة المبكرة من الحكم الملكي، وفيها اشتهرت زكية جورج، لم تكن مثالية وشهدت حوادث نهب وتدّخل للجيش و قمع لحركة اشورية، ولربما كان هنالك صلة لتلك الاغنية بماحصل يومها بشكل او باخر!
فأخذني الفضول ورحت اقلّب وابحث عن زكيّة جورج وعن قصتها وربما اسرارها. فوجدت ان لمطربتنا حياة حافلة بالاسرار واهمها ربما قرار عودتها الى حلب واعتزالها الفن منتصف خمسينيات القرن الماضي. البعض اشار بانها كانت على علاقة مع بكر صدقي قائد انقلاب عام ١٩٣٦، والاخرين اشارو لقصص عشق متعددة. ولكن يبدو ان أعمالها وسيرتها يغلب عليها طابع رومانسي بعيد عن السياسة بمفهومها المباشر.
ووجدت ان هنالك اتفاق بان الفنانة المبدعة من اصول حلبية، وانها جائت الى بغداد لتكسب عيشها من الفن. لكن المفاجئة الكبيرة هي التي رواها الكاتب العراقي خالد القشطيني، صاحب برنامج “ايام الخير” والذي كانت تبثه اذاعة العراق الحر. حيث روى في احدى حلقاته التي بثت في ٤-١٢-٢٠٠٨ وبمناسبة الاحتفال بمئوية الموسيقار العراقي صالح الكويتي، بان زكية جورج هي مسلمة وان اسمها الحقيقي هو فاطمة احمد، لكنها قررت ان تغير اسمها الى زكية جورج لتوحي بانها مسيحية، وذلك بعد نزوحها الى بغداد ولتتخلص من حرج كبير يحيط باي فتاة مسلمة تقرر احتراف الرقص و الغناء في مقاهي و ملاهي المدينة، فمابالك بمن تحمل اسم فاطمة!
ونسفت رواية القشطيني قصة التشفّي من المسلمين لان مطربتنا بالاساس مسلمة. مؤيدة بذلك وصف الاستاذ سليم الوردي حول التسييس. ولكي لا نظلم صاحب التعليق، فان حال التسييس هذه لا تقتصر عليه فقط بل هي حال عامة العراقيين!
يروي القشطيني ايضا عن مطربتنا المسلمة بانها وقعت بغرام ملحن اغانيها اليهودي صالح الكويتي، فهامت به وهام بها، فتخيلوا الحال! ثم انها انتقلت من بغداد الى البصرة في شهر رمضان باحثة عن اجواء اكثر انفتاح، وربما هرباً من حبيبها اليهودي، فوقعت بغرام شخص ثان. لكن انتبهوا لاشارة القشطيني بان البصرة كانت توفر حرية اكبر للفنانين وحتى في شهر رمضان!
نعم فحلقة القشطيني هذه من برنامج “ ايام الخير” هي الاخرى من ورائها غاية وكلام في السياسة! لكن المقارنة مع تعليق صاحبنا، هي قياسٌ مع الفارق. فغاية القشطيني التذّكير بايام التسامح والتعايش بين العراقيين من مختلف الاديان والاعراق وما انبلها من غاية. وغايته ايضا مقارنة أيامنا العجاف هذه مع ايام زمان، ايام “التقدم” التي عاشها العراقيون خلال فترة الحكم الملكي، و للقشطيني كما هي لوالدي العزيز أيام خير. ومهما اختلفنا حول تقييم تلك الايام فان الامر المؤكد هو نُبل غاية القشطيني وبرنامجه هذا، مقارنة بمحاولات احتراف البعض التعليق بنفس ديني او طائفي او اثني ضيق حول كل ما يجري حولنا من احداث. فتجد العالم الافتراضي يعج بتحليلات وتعليقات سلبية تتعدى مايحدث في ايامنا هذه لتصل الى ارثنا الفني والثقافي و الى المطربة زكية جورج!