سر الحقيبة الأشورية!
(١)
كانت تسير داخل مُركّب المنار الجامعي في تونس والى جنبها شخص تونسي ينوء بجر حقيبة سفر، ولانه كان يسير على مسافة منها وبدون ان يبادلها الحديث، استنتجت بانها قد استأجرته لجر الحقيبة.
طبعاً ومن يأتي بحقيبة سفره الثقيلة الى المنتدى الاجتماعي العالمي واعماله المتناثرة في اطراف الجامعة الواسعة ومتباينة الارتفاعات.
حضور اعمال المنتدى الاجتماعي العالمي مع حقيبة سفر هو اغرب ما رأيت، فكرت كان ممكن ان تتركها في الفندق وتتحرر من حملها الثقيل.
كنت اسير عكس الاتجاه واقترب منها، بادرتني بالحديث مبتسمة:
- اهلا استاذ “شلونك”
- اهلا عزيزتي اراك وحدك اين بقية الوفد العراقي؟
- هم في جلسة عن الاعلام تركتهم لأبحث عن محل جلسة “نهر دجلة” القادمة قالوا انها ستعقد في “ امفي – أ- ”
- اجبت نعم لكنها بعد ساعتين ونصف من ألان! انا ايضا ابحث عنها لأضع علامات دلالة، لان عنوان القاعة في البرنامج خطأ. غيروا قاعة الجلسة في اللحظة الاخيرة وانا قلق من عدم وصول الناس للقاعة لهذا السبب. وقد ينتهي بنا الحال نحدث انفسنا عن دجلة بدلا من الحديث مع جمهور واسع!
- تعالي نمشي مع بعض بإتجاه كلية الهندسة فقد فهمت ان القاعة داخل مبنى هذه الكلية.
سرنا تحت المطر كانت هذه الايام اسوء طقس مررت به في تونس طيلة زياراتي السابقة لها، مطر مستمر ورياح عالية جدا. استحيت ان اسال عن الحقيبة وقلت ماشي الحال فهذه السيدة تبدو معتزة بملابسها وتحب ان تجرها خلفها في اي مكان مضت. توقف الرجل التونسي امام سلالم تقود الى كلية الهندسة وقال لها :
- اوصلك لحد هنا، ادخلي الكلية واسالي هناك عن القاعة. اسف لكن لا استطيع ان احمل الحقيبة لكل هذه السلالم!
شكرته زميلتي جنان و دست له بضعة دنانير تونسية في يده، وشكرها بدروه وغادرنا مسرعاً.
بادرت انا بالقول تعالي ندخل ونسأل اعتقد اننا قريبين من القاعة. اعطني هذه الحقيبة، سأحملها لك عبر السلالم.
- لكنها ثقيلة، استاذ “ما اريد اشلع كلبك”
- لا تهتمي سأحملها لك حتى نجد القاعة
ودخلنا الكلية وسألت عن القاعة، كل شخص يعطينا اتجاه مختلف: يمين ، لا يسار !
قلت لها قفي انت الى جانب الحقيبة وانا ساذهب للتأكد. كان هناك ممرين واحد الى الشمال والثاني الى اليمين وكل منهما يقود الى سلالم طويلة تقود بدورها الى قاعات واقسام.
سلكت الاول دون ان اجد القاعة وعدت نازلا وهي ماتزال جنب الحقيبة مبتسمة ،
- “ماكو مو “
- نعم، لكن سأجرب الممر الاخر. وهناك وجدت متطوعين ومتطوعات للمنتدى وسألت قالوا اصعد السلم الى المنتصف وعلى يمينك تجد مدخل لممر طويل ادخل هذا الممر وواصل السير الى نهايته والقاعة ستكون في الاخير، وهذه المرة كان الوصف دقيق ووجدت القاعة في نهاية ممر طويل ومغلق في اخره. ولكن من سيصل الى هنا ولمن سنتحدث عن هموم نهر دجلة وسد اليسو!
- عدت لجنان وقلت وجدت القاعة اعطني الحقيبة لأحاول ان اصعد بها السلم،
- “تعبتك وياي، اي، انتة الله جابك الي اليوم!”
- قلت عزيزتي لاتهتمي ارافقك للقاعة لكن اتركك وحقيبة سفرك هناك لانني اريد ان اعمل لافتات بالعربية والانكليزية للدلالة على مكان الجلسة
- فكرة جيدة انا ايضا اريد ان ارتب المعرض لذلك جئت مبكرة للقاعة.
(٢)
- اي معرض تقصدين؟
- الان سترى
وصلنا القاعة ونحن منهكين، فتحت الحقيبة وقالت كلها هنا، المعرض هنا مع “الستاندات” لكن اولاً نحتاج ان نعلق اللافتة، لدي حبال طويلة ومقص وشريط لاصق. تسلقت الطاولة وبدأت اربط الحبل وفيه لافتة بإسم المعرض بينما توجهني هي:
جيد ، “شوية ، علة كيفك” اربط الحبل بقوة ويجب ان يكون مشدود لكي تبد اللافتة منبسطة وبدون طيات، نعم هكذا،
جيد “انتة جابك الله الي بهذا اليوم”.
- حدثيني عن هذا المعرض وعنك هذه فرصة نتعرف على بعض جيدا.
- “هذا معرض عن معاناة اهلنا في نينوى، نازحين من داعش”
- هل انت من مدينة الموصل او من محافظة نينوى، سألت
- “لا ، اني ببغداد اعيش لوحدي واخوية الان يعيش بدهوك، طبيب هناك. اخوية التوم مالتي، اني كلت ما اعوف بغداد حالي حال البقية العايشين. اخواني وخواتي بأمريكا، مرات يخابرون يسألون واكلهم ماعوف العراق اول وتالي نرجع لهنا. احنة اشوريين صح بس بالاخير نضّل عراقيين.”
“عيني هاي الصور ترة قسم بالطول وقسم بالعرض، اني اكول نحط الي بالطول ليورة حتة تبين.”
- قلت نعم، بدأت اضع الستاندات وعليها صور بالطول الى الخلف، لكنها اعترضت:
- لحظة “هذولة اطفال، خلي معاناة الاطفال مع بعض والنساء مع بعض، اي هيج … لا هاي اتركهة لتعرضهة، لان ماكو مكان نعرض كل شئ لازم نختار الصور الاكثر تعبير، خلي صور الخيم هذه.”
– اجبت: لما لا اضع لك “الستاندات” و تقومي انت بتوزيع الصور، ردت فكرة جيدة لأنك تضع الصور على عجالة وعلى غير التسلسل الذي افكر به! لكن الله بعثك لي لأني قصيرة لن تطول يدي لوضع الستاندات الى الخلف!
– “اني كلت اجيب المعرض كله وياية الصور والستاندات على انواعها والمواد الي احتاجهة وخليتها كلها بالحقيبة هاي، ثكيلة كلش لكن همزين بيها عجلات جبتها من بغداد لتونس“.
فكرت في نفسي طبعاً حقيبتك ثقيلة، تلم معاناة العراقيين منذ سقوط الموصل بيد داعش!
– حدثيني كيف اوضاع بغداد الان؟ وكيف يعيش المسيحيين هناك.
– “زينة ، زينة، المشكلة هسة النازحين دنحاول نلكة حلول ، احنة بمنظمتنا نحاول نحجي عن محنة النازحين لان كارثة كبيرة. من الانبار كثيرين نزحو لبغداد ومن ديالى اما اهل نينوى ففي المخيمات تكدسوا. نجمع تبرعات ونوزع، بس ماكو نهاية للمصيبة هاي”
- هل منظمتك تُعنى بالاقليات بشكل خاص ام فقط المسيحيين الاشوريين؟
- “ لا، احنة صح منظمة اشورية، لكن نعنى بكل العراقيين، النازحين اليوم وحدوا العراق من جديد… من كل الطوائف والاديان والقوميات! ، عيني حتة لا اخرك روح حُط علاماتك، هسة ارتب كلشي. لتقلق تكدر تروح انتة وتكتب اللافتات مالتك”
- قلت نعم سابحث ايضا عن الزملاء البقية واوصلهم لك هنا، هل تحتاجين الذهاب للحمام هنالك حمام في نهاية الممر.
- “ نعم لكن بعد ما اكمل نصب المعرض، اني اروح “
سرت وكتبت علامات الدلالة وانا افكر: اللعنة هنالك مايزال اشوريين متمسكين بالعراق وبهويتهم العراقية بعد كل ماجرى لهم.
(٣)
منذ شهر كنت قد قراءت رواية “عراقي في باريس” للكاتب صموئيل شمعون. فعادت لذاكرتي احداثها وتردد في ذهني نزف العراق الحديث من دمه الاشوري منذ“مجزرة سميل” في عهد الملك غازي على يد الكورد والجيش وصولا الى عصر الدواعش.
هم اصحاب الارض رحلوا … هم الهنود الحمر في تاريخنا العراقي الحديث!
وتستمر الذاكرة، قبل ان آتي الى تونس بأيام كنت قد اتممت قراءة رواية طشاري لإنعام كجه جي. اعجبتني الرواية واحزنتني بنفس الوقت لأني خرجت بشعور قوي بأن “طشاري” هو حال الاشوريين والمسيحيين عموماً، وان بغداد خصوصا قد خلت منهم، او ان من تبقى منهم في بغداد بقي لانه لم يحصل لليوم على فرصة للهجرة!
اما عن جنان الاشورية وحقيبتها فتبدوا لي محض معجزة!
وانا ألصق آخر علامة قرأتها لأتاكد انني لم اكتب شي خطأ : جلسة حملة انقاذ نهر دجلة – ازمة المياه في العراق و سوريا، ورسمت سهم دلالة الى القاعة. وكنت أفكر حقا امرنا غريب هي تحدثني عن ازمة النازحين وتحملها معها بحقيبة سفر، تجرها من بغداد الى تونس وانا ومن معي نعتقد ان انقاذ نهر دجلة مايزال ممكن!
اعتقد اننا جميعاً حالمين او “دونكيشوتية” قادمون من ارض العراق، نحلم بأن مايزال بإمكاننا ان نحل مشاكل العراق!
استمر بلصق العلامة والتفكير بكل هذا، و فجأة وصل لسمعي صوت يردد أسمي من بعيد :
استاذ … استاذ
أهلا ، تتذكرني اني احمد جردات من فلسطين، كنت ابحث عنكم، عن العراقيين والمصريين،
اين ستكون جلستكم اليوم في اي قاعة؟ آه طبعا ابحث عنكم يا اخي يجب ان نتحدث واخبرك اخر التطورات… بدونكم لن تحل قضية فلسطين!