بغداد – المونيتر
في الثاني من مايو/أيّار الجاري، كان مقهى “رضا علوان” في منطقة الكرادة، وسط العاصمة العراقيّة بغداد، مزدحماً بزبائنه، وغالبيّتهم من المثقّفين، حين دوّى انفجار هزّ المنطقة بأجمعها، ولحقه صوت إطلاق رصاص، وسمعت بعدها أصوات سيّارات الإسعاف والإطفاء في الشوارع القريبة من منطقة الانفجار. وعلى الأثر، هب َالجميع لمغادرة المقهى من أجل محاولة النّجاة بحياتهم، خشية انفجار سيّارة أخرى، إذ أنّها طريقة تعتمدها التّنظيمات الإرهابيّة في العراق عبر القيام بتفجيرين مزدوجين بهدف إلحاق الأذى بأكبر عدد من السكّان.
كان عمّار الشابندر وزميله عماد الشرع، وهما يديران “معهد صحافة الحرب والسلام” قد غادرا المقهى قبل دقائق من حدوث الانفجار، ولم يتوقّع أحد أن يصابا بأذى، ولكن الواقع العراقيّ يغدر بأحسن التوقّعات الّتي يمكن حسابها. وقبل أن يدرك الكثيرون من روّاد المقهى ما حدث كان خبر مقتل الشابندر قد انتشر في تلك اللّيلة على مواقع التّواصل الإجتماعيّ، كذلك خبر إصابة زميله الشرع بجروح ونقله إلى المستشفى، حيث ظلّ راقداً أكثر من ثلاثة أيّام. لقد أدّت شظايا التفجير إلى إصابة الشابندر بإصابات بالغة أودت بحياته، وأصيب الشرع بكسر في الساق وشظايا في الرأس.
وفي اليوم التّالي من التّفجير جاء كريم وصفي، عازف آلة “التشيلو” في الفرقة السمفونيّة العراقيّة وعزف وسط الرّكام الّذي خلّفته السيّارة المفخّخة. وكان غاضباً وحزيناً ومتحدّياً، وأراد إحياء ذكرى أرواح الضحايا عن طريق الموسيقى. ولكن بالقرب من المكان حيث كان يعزف، قال شاب لم يتجاوز العشرين من عمره: “سيتعب وصفي من التنقّل وسط انفجارات راحت تتكاثر”.
وقد ساد بعض الهدوء الأمني خلال الشهرين الماضيين وسط مركز بغداد والمناطق الحضرية داخلها، إلا أن أطراف العاصمة شهدت العديد من الأحداث الأمنية، وظلّت تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق تُشير إلى ارتفاع أعداد القتلى المدنيين في بغداد وباقي المحافظات. وبما أنّ التوقّعات الإيجابيّة والأماني لا تثبت، يبدو أنّ إحلال الأمن في العراق بات حلماً صعب التّحقيق
تعدّ منطقة الكرادة مكاناً حيويّاً، إذ تضمّ مقرّات الصحف والمجلاّت والقنوات التلفزيونيّة والإذاعيّة ومنظّمات المجتمع المدني، ومقاهي عدّة يرتادها الكتّاب والأدباء والفنّانون. وفضلاً عن ذلك، ما زالت هذه المنطقة تحتفظ بحيويّة مدنيّة، مقارنة بمناطق أخرى من بغداد منغلقة على نفسها. كما أنّها منطقة متنوّعة يسكن فيها المسيحيّون والمسلمون، الشيعة بجانب السنّة، وتسير فيها الكثير من النساء سافرات من دون حجاب على الرأس. كما تسهر العائلات في مطاعمها حتّى ساعات متأخّرة من اللّيل.
ومن مميّزات هذه المنطقة الحيويّة، أنّها قريبة من منطقة الباب الشرقيّ، مركز المدينة، حيث تتوافر سيّارات النّقل العام الّتي تنقل الركّاب إلى معظم مناطق العاصمة.
ليس من السهولة القول إنّ الانفجار، الّذي أودى بحياة عمّار الشابندر كان خرقاً أمنيّاً عارضاً، إذ لحقه انفجار آخر في المنطقة نفسها في 9 مايو/أيّار، ممّا جعل الحسابات في شأنه تتّخذ شكلاً تشاؤميّاً. ومن هنا، اعتقدت إيفان حكمت، الّتي تعمل كرسامة في مجال رسوم الأطفال، أنّ المنطقة مستهدفة من قبل تنظيم “داعش”، الّذي كان قد أعلن مسؤوليّته عن التّفجيرين. وفي هذا السّياق، أشارت حكمت، الّتي تقضي ظهيرة يوم عطلتها مع زوجها وابنتها، الّتي لم تتجاوز العام من عمرها في المقهى، إلى “أنّ الوضع لم يعد يطاق، فهذه المنطقة هي آخر ما تبقّى لنا لنقضي فيها ساعات رخاء أيّام العطل”.
وقالت حكمت في حديث لـ”الـمونيتور”: “لا أتوقّّع أنّ الحكومة قادرة على حماية المنطقة ولا بغداد. ويبدو أنّ الأمور خارجة عن سيطرتها في شكل كامل”.
من جهته، قال حسام السراي، رئيس”بيت الشعر في العراق” لـ”المونيتور”: “إنّ الكرادة مكان حيويّ متاح للناس بمختلف طوائفهم وعقائدهم، لكنّ مكاناً مثله يتعرّض إلى ما يتعرّض له، قد يصبح حيّاً شعبيّاً تقليديّاً مقفلاً”.
وقال السراي، الّذي نظّمت مؤسّسته عدداً من الفعاليّات الثقافيّة على أرصفة الكرادة ومقاهيها: “إنّ اللّحظة الّتي نعيشها مجنونة لا تنتمي إلى العقل والمنطق، فالوجود هنا بات جنونيّاً أيضاً، ونحن نجازف بالمجيء إلى هذا المكان. إنّ المقهى الّذي بات يقدّم إلينا شاياً أو قهوة، يمكن أن نستبدله بآخر في شارع آخر لم يصل إليه الموت بعد”.
الحزن والخوف، اللّّذان بديا واضحين في نبرة السراي، يقابلهما تحدّ للواقع في صوت المخرج السينمائيّ الشاب مهنّد حيّال، الّذي قال لـ”المونيتور”: “إنّ الموت منتشر في البلاد ويوزّع على الجميع، بيد أنّ الخوف من الجلوس في المقهى لا يجعل الحياة أكثر أمناً”.
وسأل حيّال، الّذي يلتقي مع زملائه في المقهى لمناقشة مشاريعهم السينمائيّة: “ألا يمكن أن تسقط قذيفة من تلك الّتي يرسلها (داعش) إلى داخل المناطق السكنيّة على منزلي وأموت؟”، معتبراً “معاودة الجلوس في المقهى كلّ يوم أكبر تحدّ للإرهاب والموت اللّذين يعبثان بالبلاد”.
وفي كلّ الأحوال، يلقي الموت والرّعب ظلالهما على الأماكن، الّتي يزورانها ، فبعد 10 مايو/أيّار بدت منطقة الكرادة خالية، إلاّ من أصحاب المحال التجاريّة المتخصّصة بالألبسة المستوردة. أمّا مقهى “رضا علوان”، الّذي كان روّاده ينتظرون وقوفاً للحصول على مقعد، فلم يكن يجلس فيه أكثر من عشرة أشخاص. ومن أجل حثّ روّاد المقهى على معاودة الحضور، نشر صاحبه على موقع التّواصل الإجتماعيّ صوراً لمرتادين معروفين من فنانّين وكتّاب داخل مقهاه.
وفي واقع الحال إنّ منطقة الكرادة لا تشهد وحدها تفجيرات تودي بحياة العشرات من الناس، وهذه التّفجيرات لن تكون الأخيرة كما هو متوقّع، فتوقّع السيّئات له رصيد كبير في العراق، وهذا ناتج من سوء إدارة الملف الأمنيّ.