بغداد: اعتداء مستمرّ على الحريّات وسط تغاضي الحكومة
شنّت القوّات العراقيّة ليل 18- 19 يوليو/تمّوز الماضي حملة ضدّ عدد من النّوادي الليليّة في بغداد، تخلّلتها اعتداءات على أصحاب تلك النوادي وعمّالها واعتقال عدد منهم.
ورغم أنّ وزارة الداخليّة العراقيّة عادت واعتذرت في اليوم التّالي (٢٠ يوليو)، وأطلقت سراح المعتقلين، إلاّ أن ذلك الاعتذار لا يخرج عن كونه محاولة لتجنّب الانتقادات المحليّة والدوليّة الّتي حدثت أو قد تحدث. وإنّ هذا السلوك يعيد التّذكير بأنّ محاولات القوّات الأمنيّة الدّائمة لتقويض الحريّات تقودها وتقف خلفها تيّارات إسلاميّة عملت وتعمل على هذا الملف منذ صعودها عقب الحملة الايمانية التي قام بها نظام صدام عام ١٩٩٢ وصولا الى استلام السلطة بيد تلك التيارات بعد ٢٠٠٣، استناداً إلى نصوص دينيّة، ونجحت تدريجيا في تطبيق تعليماتها الصارمة في كلّ المحافظات العراقيّة الأخرى، ما عدا بغداد وإقليم كردستان.
وعلى عكس الإعلانات الرسميّة بحماية الحريّات في بغداد مثل ما صدر من رئيس الوزراء في ٢٠ من يوليو، فإنّ الاعتداءات والانتهاكات لم تتوقّف، فقبل حادثة اقتحام النوادي الليليّة كانت قوّة عسكريّة قد اقتحمت نادي “إتّحاد الأدباء” في بغداد، واعتدت على مجموعة من الأدباء بتهمة تناول الخمور في 19 يونيو/حزيران الماضي.
وفي 25 يوليو/تمّوز، اقتحمت قوّة عسكريّة مجهولة الهوية مطعماً عائليّاً، وسط بغداد واعتدت على مرتاديه.
كما أنّ مرحلة حكم رئيس الوزراء العراقيّ السابق نوري المالكي (2006 – 2014) حفلت باعتداءات عدّة مشابهة شملت الأماكن نفسها (النوادي وتجمعات الكتاب والادباء)، إضافة الى مخازن بيع المشروبات الكحوليّة، الّتي باتت اليوم محصورة في منطقة الكرادة بوسط بغداد اثر الاعتداءات المكررة الحاصلة ضدهم، مع انتشار المدّ الدينيّ ليبسط نفوذه على بقيّة مناطق العاصمة.
ولقد اتّخذ بعض الاعتداءات طابعاً دمويّاً. ففي يوليو/تمّوز من عام 2014، نفّذت مليشيات مسلّحة مجزرة مرعبة بقتل نحو 30 امرأة داخل شقّة سكنيّة في منطقة زيونة بشرق بغداد بسبب ما نسب للضحايا بارتكابهم امور مخالفة للاداب العامة.
وفي الحادثة الأخيرة، كما في كلّ الحوادث السابقة، شكّلت وزارة الداخلية لجاناً للتّحقيق حسب طلب رئيس الوزراء ، لكنّ أيّاً من تلك التّحقيقات لم تعلن، ولم تقدّم الوزارة أيّ مرتكب في قضيّة الاعتداء على الحريّات العامّة الى القضاء، بما يشبه التّضامن الداخليّ مع المرتكبين. وأوعزت وزارة الداخليّة السبب في الاعتداءات لعدم حصول هذه الأماكن (النوادي والبارات) على الإجازات الرسميّة لممارسة المهنة.
ومثل تلك الإجازات يتمّ استحصالها عادة من وزارة السياحة العراقيّة، الّتي لم تمنح منذ تغيير النّظام السياسيّ في العراق، بعد الاحتلال الأميركيّ في عام 2003 أيّ إجازة رسميّة لممارسة مهنة بيع المشروبات الكحوليّة أو فتح أماكن مخصّصة لها. ويعتمد العراق على قانون رقم 6 لعام 2001 ينظّم عمل هذه الأماكن، وسبقه القانون رقم 82 لعام 1994.
ولم يناقش البرلمان العراقيّ بعد عام 2003 أيّ قانون جديد، ممّا يجعل القوانين السابقة معمولاً بها، رغم أنّها أقرّت في نطاق ما يعرف بالعراق بـ”الحملة الإيمانيّة”، الّتي أطلقها نظام صدّام حسين لمغازلة التيّارات الدينيّة منذ عام ١٩٩٢.
وإنّ العهد العراقيّ الجديد لم يطبّق القانون القديم لعام ١٩٩٤ لأنّه يعترف بمنح هذه الأماكن إجازات ممارسة المهنة حسب الضوابط، ويحصر حقّ الحصول على الإجازة بالأقليّات الدينيّة “غير المسلمة”، بل إنّ مجلس محافظة بغداد، وفي إشارة نادرة تعود إلى عام 2009 اثر مناقشة للموضوع في البرلمان العراقي، اتّهم وزارة السياحة بعدم منح إجازات بيع الخمور لأسباب شرعيّة.
وعلى امتداد السنوات اللاحقة لعام ٢٠٠٣ وبعد وصول التيارات الدينية للسلطة كانت تلك التيارات تتشبّث بوزارة السياحة، وأن وزير السياحة والآثار في حكومة المالكي وأحد أعضاء تيّار الصدر لواء سميسم كان أثار أخيراً في ديسمبر ٢٠١٤ موجة من الانتقادات، عندما أطلق على آثار العراق “أصنام”، وهو الاسم الدينيّ، الّذي انطلق منه زعيم تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي لتحطيم عدد كبير من الآثار العراقيّة في الموصل.
وعادة ما تستخدم التيارات والاحزاب الدينيّة في مساجلاتها الخاصّة آليّة دفاعيّة في الردّ على المطالبين بالدفاع عن الحريّات باشكالها المختلفة، الّتي نصّ الدستور العراقيّ على حفاظها وحمايتها، في العديد من موادّه ابتداء من ديباجته، بوصف النّخب المدنيّة والثقافيّة والفنيّة والاعلاميّة في البلد، بأنّها “مدافعة عن الخمّارات”.
وهذه محاولة عكفت عليها التيارات الدينيّة لحرف قضيّة المدنيّين في الدفاع عن الحريات العامة في العراق وحصرها بالدّفاع عن بيع الخمور والنوادي الليليّة باعتبارها المشهد الوحيد الممثّل للمدنيّة في هذا البلد.
وإنّ استمرار القوى السياسيّة، الّتي تقف خلف انتهاك الحريّات العامّة في سلوكها الدائم لاستثمار الفرص للانقضاض على تلك الحريّات، موقف سيقود بالتّأكيد إلى الصدام مع القوى المدنيّة في العراق، الّتي ما زالت تدافع عن معركتها للدفاع عن الحريات في بغداد وإربيل والسليمانيّة، بعد أن خسرت معاركها تحت ظلّ المدّ الدينيّ في مدن عدّة أخرى.
كما أنّ تقاعس الحكومة عن إدارة الصراع الطبيعيّ بين القوى المدنيّة والدينيّة بحياديّة، بل تآمرها مع رجال الدين والتيّارات المتشدّدة، وغض الطرف عن تلك الاعتداءات وعدم تقديم مرتكبيها الى القضاء، كلّ ذلك سيطعن في حقيقة موقفها (الحكومة العراقية التي يسيطر عليها التيارات الدينية) من الديموقراطيّة في العراق، وفي حال كانت الديمقراطية مجرّد شعار مرحليّ يمهّد للانتقال إلى مرحلة حكم دينيّ مستقبلاً.