المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي

The Iraqi Civil Society Solidarity Initiative (ICSSI) is dedicated to bringing together Iraqi and international civil societies through concrete actions to build together another Iraq, with peace and Human Rights for all.

منظمات المجتمع المدني مطالبة بتطبيق إصلاحات (٢)

لكي لا ينطبق قول الواعظ:
 “ وغير تقي يأمر الناس بالتقى         طبيب يداوي الناس وهو عليل”
إسماعيل داود*
1424350185.
(٢) الديمقراطية التمثيلية والمنظمات القاعدية، هل من بديل؟
يصح القول بأن اغلب منظمات المجتمع المدني في العراق تأسست وفقاً لنموذج “الجمعيات القاعدية ذات العضوية”. حيث تقوم مجموعة من الأفراد بتأسيس منظمة أو جمعية وفقاً لفكرة وهدف محدد، لتفتح  بعد ذلك باب العضوية لأفراد آخرين.
مجموع الأعضاء يشكل ما يسمى بالهيئة العامة أو الجمعية العمومية، أو أي إسم آخر، هذه الهيئة تنتخب مجموعة من الأعضاء يشكلون مجموعة توجيه وقيادة، قد تسمى (لجنة إدارية أو مجلس إدارة أو تسمية مقاربة). كل هذا يأتي إتباعاً لنموذج الديمقراطية التمثيلية “إنتخاب ممثلين”. وحتى في المنظمات التي لاتتأسس على النموذج القاعدي، وهي قليلة جداً، فإنها هي الأخرى تلتزم، بشكل أو بآخر، بالديمقراطية التمثيلية سواء في الهيكلية أو في عملية إتخاذ القرار.
في المنظمات القاعدية، الفكرة في الأصل، هي أن تكون الهيئة العامة (الجسم الأوسع) مصدر السلطة وصاحبة القرار، وإن دور مجلس الإدارة، هو إدارة شؤون الجمعية بحيث يكونوا مسؤولين تجاه الهيئة العامة. لكن وفي واقع الحال، فإن مجلس الإدارة، ذو المقام العالِ والسلطة، يحتكر في النهاية القرار والمكان، ويعطل دور الهيئة العامة. ويرسخ سلطته مع مرور الوقت جاعلاً إجتماع الهيئة العامة نادراً وربما مستحيلاً.
وفي أحيان كثيرة يجمع هذا المجلس المصغر سلطتي صناعة القرار والتنفيذ معاً. وشيئاً فشيء تتحول معظم مجالس الإدارة أو الهيئات الإدارية الى مجموعة أفراد مخلدين في مناصبهم، أغلبهم لا يعملون بالشكل المطلوب وقسم منهم لا ينتج على الإطلاق! فمجالس الإدارة من هذا النوع، تفضل الحكم وإصدار القرار، والسفر والمنافع على العمل الشاق. هي غالباً ما تعتمد التصويت وإقصاء المعارض بشكل أو بآخر!
ومن هنا تأتي الإنشقاقات وتكوين جمعيات ومنظمات أخرى، وهذه بدورها غالباً ماتعمد نفس النموذج وتقع بنفس الاخطاء مولدة لمزيد من المنظمات!
 أصبح من المستغرب أن نستمع لمُمثّل منظمة ينتقد إحتكار حكومة أو مجلس محافظة أو برلمان، لسلطة  القرار وللمعلومة بشكل عام، وحين تسأل عن دوره في منظمته، تجده (أو تجدها) رئيس على مر السنين أو مدير وصاحب قرار أوحد، وربما لأكثر من عقد من الزمان!
نموذج الديمقراطية التمثيلية الذي يعاني ما يعانيه من مصاعب على مستوى الحكم والحياة السياسية في العراق، هو نفسه المعتمد (ولو شكلاً) من عدد كبير من منظمات المجتمع المدني: نقابات، جمعيات، منظمات، شبكات أو غيرها.
 ديمقراطية تنحصر بيوم التصويت فقط، فمع إتمام عملية إختيار الممثلين لنا، تنتهي معها أهمية آرائنا لمدة أربع سنوات. بل أن عدد غير قليل من هذه المنظمات، ليس لها من الديمقراطية إلا إنتخابات جرت لمرة أو مرتين على مدى تاريخها الذي قد يصل لعدد لا بأس به من السنين، فما أهونها من ديمقراطية!
بصراحة أقول يتعذر فهم المطالبة بالديمقراطية الحقيقية والمشاركة، والفصل بين السلطات، حينما تأتي من منظمات تطبق “ديمقراطية اليوم الواحد” فمن أين لعاجز عن إدارة ومشاركة آراء عشرات من الاشخاص، أن يطالب الاخرين بتطبيق الديمقراطية على الملايين!
(٣) الديمقراطية التشاركية، بديل ممكن لكنه بحاجة الى تطوير وتأصيل
ليس صحيح ان البدائل غير متوفرة، لكن المشكلة هي أن الاغلبية تفضل إتباع “قالب” “الديمقراطية التمثيلية”، لأنه الأسهل وربما لأنه المتوقع من الجميع:
 “تريد تفتح منظمة، تحتاج نظام داخلي، إذاً إنسخ الموجود هنا أو هناك، فقط لا تنسى تغيير إسم المنظمة!”
ليس المطلوب التخلي عن الإنتظام في منظمات المجتمع المدني المختلفة، ولا عن ممارسة الديمقراطية بشكل عام، لأن ذلك هو الفشل بعينه، بل المطلوب هو إيجاد بدائل سواء في طرق تطبيق الديمقراطية التمثيلية بشكل أكثر فاعلية أو إيجاد بديل لها.
أحد الخيارات البديلة و المهمة هو تطبيق نموذج “الديمقراطية التشاركية” وفيها تصبح عملية إتخاذ القرار مفتوحة للجميع ومبنية على “التوافق البناء”. وهو نموذج حاز على إهتمام كبير من عدد من المراقبين وتم تطبيقه في تجارب عديدة ومنها تجربة المنتديات الإجتماعية التي أعقبت نشوء حركة المنتدى الاجتماعي العالمي في البرازيل عام ٢٠٠١.
والمقصود بتطبيق نموذج الديمقراطية التشاركية في هذه الحالة، أن تستمر مجموعة التأسيس ومن بعدها الأعضاء وهيئات المنظمة العامة أو مجلس الإدارة، بعقد إجتماعات مفتوحة، غرضها صناعة القرار، إعتماداً على الذكاء الجماعي والتجربة الجماعية وإتاحة المعلومة للجميع. ليس هنالك مانع من مساهمة أعضاء جدد ماداموا معنيين بالأمر ومشتركين بالفكرة والهدف الأساسي للمنظمة، حتى وإن كان حضورهم وإستمرارهم متذبذب.
لا أنكر أن هذا النوع من الديمقراطية هو “تمرين عصيب” في ممارسة الإستماع الى الآخر وفي تعلم تجاوز القناعات الذاتية أو الذكاء الفردي. فمع هذا النوع من الديمقراطية، لا حاجة للتصويت أو بالأحرى هيمنة الأغلبية! فالأهم من إتخاذ القرار معرفة لماذا نتخذ هذا القرار وهل هنالك أي بديل عنه؟ فقد تدور النقاشات لساعات أو لأيام لحين الوصول لقرار أمثل.
في مثل هذه النقاشات يجب أن توفر المعلومات للجميع، وأن نستمع للجميع: للشاب والخبير والإنسان البسيط، وغيرهم في جلسة واحدة أو جلسات متعددة، تحصل فيها نقاشات موضوعية وبينية بين كل الحضور. يقوم ميسر الجلسة بتوضيح الموضوع ونتائج النقاش لكل من يحضر حتى وإن لم يواكب كل النقاش. ثم يبدأ بناء القرار من عصف واسع للأفكار والآراء وبإعتماد وتقبل الحجج العلمية والموضوعية وبالتالي التنازل لصالح الأكثر رجاحة منها.
فقط في حال تعذر الوصول لقرار بعد مرات متتالية من جلسات النقاش، يمكن طرح الموضوع للتصويت.  لكن التصويت والإنتخاب في هذا النموذج من الديمقراطية يجب أن يظل خياراً محدوداً جداً، فالبديل عنه هو إدارة جيدة لنقاشات موضوعية للقضايا المشتركة.
 لا يجب أن يفوتنا أن هنالك حاجة لتأصيل هذا النوع من الديمقراطية “وتعريقها- إعطائها مضمون إجتماعي عراقي” حالها كحال الأفكار التي ترد إلينا من تجارب الآخرين، فلا يخفى على لبيب بأننا ما نزال في إطار إستهلاك ما ينتجه الآخرون من نماذج للحوكمة والديمقراطية! لكن تأصيل هذه التجربة عبر عملية مستمرة من الممارسة والتعلم، كفيل بأن يجلعها أكثر قرب من واقعنا، وأكثر إستجابة له.
لا توجد ضمانات أو نتائج مؤكدة لتطبيق هذا النوع من الديمقراطية، فلكل تجربة ظروفها ونتائجها، لكن الأمر الأكيد أن الديمقراطية التشاركية تتيح لعدد واسع من المعنيين من ممارسة ديمقراطية حقيقية، تجعلهم أكثر خبرة بمرور الزمن وتؤهلهم لأدوار قيادية في مجتمعهم وتؤهلهم أيضا للمطالبة بديمقراطية أكثر فاعلية وأكثر مشاركة على مستوى المجتمع المدني وعلى مستوى إدارة البلاد ككل.
(٤) بناء جهاز تنفيذي و فصل سلطة صناعة القرار عن تنفيذه 
ماسبق يخص بطبيعة الحال صناعة القرار، وهي أفكار قابلة للنقاش والتطوير ولا تنفي وجود تجارب أخرى شهدها العراق خلال العقد الماضي، قد تكون نماذج جيدة وبدائل، للراغبين في التعلم والإستفادة.
أما في التنفيذ، فلا بد للمنظمات من بناء جهاز تنفيذي محترف، أفراده مختلفين عن صناع القرار، لكنه وبنفس الوقت ليس منعزل عن أهداف ومباديء المنظمة. فصل السلطات أساس لوجود أي تجربة ديمقراطية، تمثيلية كانت أم تشاركية.
 ليس من المعيب أن يكون للمنظمة موظفين، وجهاز تنفيذي، على العكس، وجود جهاز تنفيذي متمرس (يشمل الإداري، المحاسب، مسؤول التنظيم، وغيرهم) هو دليل تحول المنظمة الى مؤسسة ناجحة. يجب أن يتم الإهتمام بإختيار عناصر وفقاً لمعايير علمية، وأن  يتم منحهم فرصة لأداء عملهم بصورة مهنية.
لا يمنع وجود هذا الجهاز، ولا يقلل، من دور العمل التطوعي والمتطوعين، فهنالك أنشطة وأدوار تحتاج الى متطوعين.  بنفس الوقت هنالك مهام في المنظمات تحتاج الى موظف محترف، إذا أرادت المنظمة أن تقوم بتنفيذ مشاريع بصورة مهنية تليق بها.
كذلك لا يمنع وجود موظفين وبالتالي رواتب، من إلتزام المنظمة بمبدأ العمل غير الربحي، ما دامت هذه الرواتب مقدمة في إطار شفاف ومقابل عمل وجهد تحتاجه المنظمة. ومادام التوظيف يتم بطرق معلنة ووفقاً للكفاءة والخبرة.
هذا الجهاز التنفيذي هو القادر على  تغذية منظومة الديمقرطية التشاركية، أو أي منظومة ديمقراطية لصنع القرار، بمدخلات فنية وتقارير عن الموازنة والمشاريع وعن مسار عمل الجمعية أو المنظمة أو النقابة، لتقوم بدورها بمراقبة وتقييم الأداء، على أمل أن يلتزام هذا الجهاز والمنظمة بشكل عام، بإعتماد مباديء الحكم الرشيد التي كانت موضوع للجزء الاول من هذه الورقة.
(يتبع)
*ناشط مدني، مسؤول سياسات في منظمة اون بونتة بير… الايطالية، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية وحقوق الانسان من جامعة سكوالا سانتانتا – ايطاليا.