مع استمرار هجرة المسيحيّين، يتضامن المسلمون معهم في احتفال أعياد الميلاد
بغداد – المونيتر
مع كلّ عام، تزداد ملامح احتفالات أعياد الميلاد في العاصمة العراقيّة بغداد، وما نلاحظه هذا العام يفوق الأعوام الماضية، فهل هي مجرّد احتفالات للبحث عن فرحة أم هي تعبير عميق عن التّضامن مع الأقليّة المسيحيّة المهّددة؟ تتزيّن الشوارع، حيث تقع مراكز التجارة الليليّة في العاصمة، مثل الكرّادة والمنصور وشارع فلسطين وزيونة، بأشجار الكريسمس ودمى بابا نويل. وتشهد حديقة الزوراء في وسط العاصمة نصب شجرة عملاقة بادر إليها أحد رجال الأعمال، بينما أقامت محلاّت تجاريّة وإجتماعيّة أخرى أشجاراً أصغر، لكنّها كبيرة قياساً بما تقدّمه في كلّ عام.
ووضع “سما مول”، وهو مجمّع تجاريّ كبير في منطقة “الكرّادة خارج”، شجرة بارتفاع سبعة أمتار تقريباً، وكثّف من حركته التجاريّة لبيع ألعاب وزينة رأس السنة الميلاديّة. وفي هذا السياق، أشار مسؤول الموظّفين في المجمّع عمّار حسين إلى أنّ حركة الشراء كبيرة، رغم أنّ القدرة الشرائيّة تراجعت، بسبب الأزمات الماليّة وسياسة التقشّف التي فرضتها الحكومة العراقيّة، وقال في حديث لـ”المونيتور”: “إنّ إقبال المسلمين على أشجار عيد الميلاد والأمور الأخرى كبير، وإنّ أهالي المناطق الشعبيّة والفقيرة حاضرون أيضاً، وليس الأغنياء فقط”. وأكّد”أنّ المسلمين يحبّون أعياد شركائهم في الوطن”، مشيراً إلى أنّ ما تعرّض له المسيحيّون ليس بسبب المسلمين، إنّما بسبب من يكرهون العراق”.
وكان محمّد وزوجته المحجّبة أم يوسف، من ضمن المشترين من المول، فابتاعوا شجرة عيد ميلاد صغيرة وبضع هدايا، وأخذوا مع أطفالهم صوراً تذكاريّة قرب الشجرة المرتفعة، وحين سأله “المونيتور” عن سبب احتفائه، أشار إلى أنه يعتبرها “المناسبة الأكثر فرحاً طيلة أيّام العام”. ومن جهتها، قالت زوجته: “نحن لا نحتاج إلى دليل على التعايش، فنحن شعب واحد، وأعياد الميلاد مثل بقيّة المناسبات الإسلاميّة نحييها”.
وفي السنوات الماضية، صام المسيحيّون تضامناً مع المسلمين. كما أوقفوا الإحتفالات العلنيّة في عام 2012، عندما تزامن عيد الميلاد مع ذكرى أربعين الإمام الحسين، المناسبة الأكثر حزناً لدى الشيعة. وهناك العديد من الحالات التي شهدت مشاركة رجال دين مسلمين في مناسبة مسيحيّة وبالعكس، بل إنّ قيادات سياسة إسلاميّة حضرت مناسبات مسيحيّة في الكنائس.
ولكن، رغم هذا التفاؤل، يثير الواقع أسئلة ومخاطر عدّة حول مستقبل إحدى أقدم الديانات في العراق، فالبلد الذي يضمّ بعض أقدم الكنائس في تاريخ البشريّة، حيث كنيسة كوخي في سلمان باك جنوب بغداد، تعرّض إلى تهديم كنائس عديدة، بعد أن احتلّ “داعش” الموصل، فكنيسة الخضراء في محافظة صلاح الدين دمّرت من قبل التنظيم بعد احتلال المحافظة. كما تمّ تهجير المسيحيّين وطلبت الجزية منهم، بناء على حكم شرعيّ يلزم غير المسلم من أصحاب الديانات السماويّة بدفع المال مقابل الحماية، وفي حال عدم الاستجابة يقومون بإعلانإسلامهم أو المغادرة.
وعليه، رأى ناشطون مسيحيّون أنّ البلاد تفرغ من أتباع هذه الديانة وقوميّاتها القديمة. وفي هذا الإطار، قال منسّق منظّمة حمورابي لحقوق الإنسان وليم وردة لـ”المونيتور”: “إذا بقيت الأمور، كما هي عليه، ولم توفّر السلطات ضمانات للآشوريّين والكلدان في البلاد، فإنّ الحقيقة الوحيدة أنّهم سيغادرون”.
وأشار إلى أنّ نصف نازحي الموصل من المسيحيّين، الذين هجروا العراق فعلاً، والعدد في تزايد. أضاف: “إنّ داعش الذي مارس القتل والتهجير بحقّ المسيحيّين، ليس السبب الوحيد الذي يفرغ البلاد منهم، بل السياسات الحكوميّة نفسها، فلم يستجب مجلس النوّاب إلى مطالبات الأقليّات بتعديل المادّة 26 من قانون البطاقة الوطنيّة، التي نصّت على أنّ القاصرين يصبحون مسلمين، في حال أعلن أحد الأبوين إسلامه”.
وحمّل من شرّع المادّة الخاصّة بمنع بيع الخمور مسؤوليّة المساس بتجارة الإيزيديّين والمسيحيّين في العراق ومعيشتهم. وحمّل أيضاً تهاون الحكومة العراقيّة في حماية الأقليّات، مسؤوليّة قتل التاجر ججي داوود القس بطرس في 26 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي في البصرة، والذي كان “دافعاً لمغادرة العديد من المسيحيّين محافظة البصرة البعيدة عن هيمنة داعش”.
ورغم أنّ المسيحييّن قاموا بأمور كثيرة لإعلان تعايشهم مع نظرائهم المسلمين، لكنّهم لم يحصلوا على الحماية الكافية، فمنطقة الدورة في جنوب بغداد قطنها الكثير من المسيحيّين، لكنّها عرفت عمليّات اعتداء، ثمّ تهجير مبكر، منذ عام 2004. والمسيحيّة مجبرة على ارتداء الحجاب أو لبس ما يناسب عادات المسلمين في المحافظات الجنوبيّة، لكنّ الحادثة الأكثر صعوبة، حين قام مسلّحون من تنظيم القاعدة باقتحام كنيسة سيّدة النجاة في وسط بغداد، وأخذوا رهائن، وقتلوا العديد من المصلّين أثناء قدّاس أقيم في تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 20100. وحينها، بدأت هجرة واسعة، كانت الأكبر حتّى احتلال داعش محافظة نينوى.
ورغم أنّ الدستور العراقيّ بتأكيده على احترام المكوّنات، وذكره المسيحيّة خصوصاً، يمثّل مرجعيّة أساسيّة ومهمّة يمكن الانطلاق منها لحماية الأقليّات، لكنّ الأزمة الحقيقيّة تكمن في عدم وجود آليّات لتطبيق الدستور.
وفي هذا السياق، أشار راعي كنيسة مار يوسف في بغداد المونسنيور بيوس قاشا لـ”المونيتور” إلى أنّ رجال الدين المسيحيّين يطالبون ببقاء المسيحيّين في العراق، فلا “يجوز للأصلاّء ترك بلدهم”، موضحاً أنّ هذه الدعوة ستطلقها الكنائس هذا العام، وقال: “إنّ ما فعله داعش ترك انطباعاُ مخيفاً لدى المسيحيّين بأنّ البلد غير مؤهّل للعيش، وهذا ما يدعوهم إلى مغادرته”. أضاف: “إنّ نهب بيوت المسيحيّين والتعامل معها كغنائم في الموصل لم يأت من داعش فقط، بل من الجيران، فهل يعقل أن تعامل أموالنا كغنائم؟!”.
من جهته، دعا رجل الدين المعتدل رحيم أبو رغيف في حديث لـ”المونيتور” إلى مراجعة آيات العنف في النصوص الدينيّة الإسلاميّة وضرورة “التأصيل الفقهيّ للمواطنة، بدلاً من التمييز على أساس الدين”.
ومن هنا، رغم أنّ احتفالات عيد الميلاد تمثّل فرصة لتعزيز التعايش، لكنّ الفعل الأساسيّ والأهمّ هو أن تمتلك الدولة زمام المبادرة، حيث يتواجد المسيحيّون وتقديم الحماية والضمان الكافي إليهم لحياة كريمة بكلّ حقوق المواطنة.