تفاحة حلبجة .. الربيع الذي لم يدركه نوروز
حلبجة قضية عراقية انسانية
بغداد ، أذار ٢٠١٧
ينظم مجموعة من شباب ومتطوعي منظمة صوتنا و جماعة لاعنف بغداد والمنتدى الاجتماعي العراقي، وقفة استذكار على طريقة “فلاش موب” يوم الخميس ١٦ اذار ٢٠١٧ الساعة ٥ عصرا عند نصب انقاذ الثقافة العراقية، قرب معرض بغداد الدولي، في العاصمة العراقية بغداد.
وتعد المبادرة حدث مميز، لان المعتاد ان مثل هكذا احتفالات تنظم في اقليم كوردستان العراق وخصوصا في المدينه المنكوبة. اما اختيار بغداد وفي هذا التوقيت للتضامن مع اهالي حلبجة في الذكرى 29 للفاجعة التي اصابتهم، فله دلالات مهمة.
الدلالة الاولى لهذا الحدث هي عن تضامن العراقيين جميعا وتحديدا اهالي بغداد مع ضحايا حلبجة (وهم من الكورد)، تضامن لايغيره مرور الزمن او تعدد الكوارث التي مر بها العراقيين. تضامن يشكل نموذج للعراقيين ليتوحدوا ازاء المهم المشترك. وليعلموا ان معاناتهم واحدة وان التضامن ضرورة لابد منها خصوصا في هذا الظرف الصعب.
الدلالة الاخرى هي ان العراق بحاجة لان ينهض بالرغم من جراحهة العميقة، وان الثقافة هي التي يمكن لها ان تكون الاداة المناسبة لانجاز مثل هذا النهوض. وهذا ما نلتمسه من المكان الذي اختاره المنظمون لوقفتهم وهو نصب “أنقاذ الثقافة العراقية”. و هو نصب أكمله النحات العراقي الراحل محمد غني حكمت عام 2010 ويقع في منطقة المنصور بقرب الزوراء في جانب الكرخ من بغداد. وهذا النصب عبارة عن عمود حجري مكسور آيل إلى السقوط يمثل الثقافة العراقية وهناك أيادي وأذرع يحاولون جاهدين بأن لا تسقط الثقافة ومكتوب على العمود بالخط المسماري (من هنا بدأت الكتابة)
هذه دلالات المهمة، درسها المنظمون جيدا وهو ماعبروا عنه في نص القصة الذي ننشره ادناه و كما ورد الينا:
قصة تفاحة حلبجة، الربيع الذي لم يدركه نوروز
بينما كانت حلبجة تستقبل الربيع هب نسيم تفوح منه رائحة التفاح, استقبل اهالي القرية رائحة التفاح التي كانت عبارة عن سلاح كيمياوي تعرضت له المدينة, ظل اهالي حلبجة يرمزون الى اهليهم الذين فقدوهم بالتفاح
من صور الرعب والدمار هي لكارثة البشرية وبشاعة الفعل، في صور الاطفال النازفين بينصدور امهاتهم والرماد في صور النساء والرجال الذين اغلقوا عيونهم على مناظر عيون اطفالهم وهي تنط من محاجرها محتضنين برك الدم. ولطالما سمعنا وشاهدنا الكثير من التقارير والصور، الا انها مهما بلغت لا تغني عن زيارتها وتلمس ذكريات جراحها عن كثب، في كلمات سكانها ممن نجوا من الامطار السامة للاسلحة الكيمياوية، في بقايا اشجارها واكواخها وعشبها وطيورها وحيواناتها التي لم يستثنها الاعصار الكيمياوي يوم 1988/3/16 في الوقت الذي كانت تستعد فيه لاستقبال نيروز بكامل حلتها الربيعية الزاهية التي استحالت رمادا، فلانيروز ادرك ربيعها ولا البنات دشن الثياب البراقة للدبكات في استقباله..
شبه جزيرة بين الماء والجبال والفاكهة…
على المسافر ان يقطع (80 كيلومترا) من مركز مدينة السليمانية ليصل الىحلبجة مرورا بسلاسل جبلية تطل على واحد من اغنى سهول العالم واكثرها خصبا وجمالاً هو سهل (شارزور) مارا بقصبة (سيد صادق) وجسر (زه لم) الواقع علىنهر سريع الجريان، يتدفق من اعالي الجيال الحدودية الفاصلة بين العراقوايران التي عادة ما يظل الثلج معرشا على قممها في اكثر اوقات السنة
لا احد يتخيل، كم كان مروعا حجم الدمار، في ذلك الربيع الكارثي، ففي اذارمن عام 1988، كانت القوات الايرانية قد اجتاحت المدينة وعبرتها حتى جسر (زهلم) ولايام قلائل كان السكان قد اعتادوا دوي المدافع والقصف من كلا الجانبين، حتى جاء الوعد المشؤوم، الساعة الحادية عشرة والنصف قبل الظهر من يوم 1988/3/16، اذ امتلأت اجواء المدينة باسراب من الطائرات القاصفة، يحمل بعضها بالونات لمعرفة اتجاه الريح، كان عدد الاسراب يتراوح بين 6 الى 12طائرة تتناوب بقصف مكثف على المنازل والمزارع والشوارع والناس، فما كان من السكان الا الفرار العشوائي باتجاه الجبال.
تم استعمال عدد من الاسلحة الكيمياوية, كغاز الخردل، وغازات الاعصاب، و تلبد سماء المدينة بسحب دخانية ذات الوان فاقعة، كما ذكر بعض الناجين فمنهم من مات حرقا، ومنهم من مات اختناقا او انتفاخا، ومنهم من ازرق جسده وجحظت عيناه حتى خرجتا من محجريهما، ومنهم من بكى اوضحك بهستريا حتى فارق لحياة
حكايات على لسان الناجين من الجحيم..
بجوار مقبرة قديمة دفنت الشفلات ما يقارب 1500 جثة من الشهداء وقد اقيمت مقبرة رمزية من الشواهد على كل شاهدة كتب عدد من اسماء الشهداء البالغين (5000) خمسة الاف ضحية بحسب اكثر الاحصاءات موضوعية، عدا من وافتهم المنايا في المخيمات والمستشفيات الايرانية، ودفنوا خارج الوطن، يتوسط المقبرة نصب تذكاري من المرمر لفتاة رفعت يديها الى السماء، صارخة مقطعة سلاسل العبودية والموت، كانها تستصرخ الانسانية جمعاء، وتشق ستارالصمت الذي اطبق حول الكارثة وتستحضر في ذاكرة العالم عقدة الذنب، لكي لاتكون على الارض حلبجة ثانية، تلك هي حلبجة التي لم يتحرر سكانها الناجون من الجحيم، وشهود الكارثة من عقدة ذلك الربيع الاسود.
(حبيب حسن علي) وهو احد الناجين، يبلغ من العمر (70 عاما) ويعمل حاليا في مقبرة الشهداء، فقد العديد من ذويه واقاربه… يقول هربنا الى قرية (عبابيلي) لكن الروائح الكريهة للدخان كانت تلاحقنا، ففر الناس متوجهين نحو الجبال، لا احد يعلم الى اين يتجه، ولا احد يعرف ما الذي حل بولده او اخيه او امراته او والده او والدته، ولا احد يتذكر، او يسأل عن جاره او اقاربه، كان المهم ان ينجو الانسان بنفسه، واكد ناج اخر، وهوعبدالرحمن عزيز امين البالغ من العمر (44 عاما) قائلا بأنه لم يلتق باهله الا بعد مرور شهر على الكارثة في احد المخيمات, وقد استشهد اخي في مستشفى ايراني
ان الزائر لمدينة حلبجة لا يشقى في العثور على عشرات الناجين من شهودالعيان وعلى كم هائل من الحكايات القاسية التي تجري على ألسنة الناس كما يجري المثل السائر وهناك صور ناطقة وقبور وبيوت عليها آثار من رحلوا وجرحى ومعاقون وولادات” هيروشيمية “ او” حلبشيمية “ مشوهة وحالات عقم مشترك نسائية ورجالية، واضطرابات مناعية ونفسية، واحباطات ما تزال آثارها على ملامح السكان وسحناتهم المأساة وما قبلها في صور
اليوم وبعد مضي 29عاما على الفاجعة المؤلمة, نتضامن من اجل الضحايا من اجل ان لا تعود المأساة من جديد ولا نكرر الماضي ونداوي الجراح ونبني لاجيالنا حياة جديدة يملؤها السلام والتعايش والتسامح.
حلبجة في قلوبنا وقلوب كل العراقيين ونعزي عوائل الضحايا والشهداء
حلبجة قضية عراقية انسانية