لماذا يحتج سكان الموصل لصالح ابن مدينة الصدر “الجنرال الساعدي”
تمثل احتجاجات سكان الموصل لدعم ضابط شيعي من جنوبها تم ابعاده من مهامه العسكرية علامة مضيئة في الهوية الوطنية، كما ان الحدث يوضح ايضا كيف ان الصراع الاميركي – الايراني يسحق الهوية الوطنية العراقية المكسورة.
ليس مألوفا في بلد مزقته الحرب الطائفية والازمات الامنية والاداء السياسي الفاشل مشاهدة سكان الموصل السنية، يحتجون ضد قرار رئيس حكومة بلادهم بابعاد الضابط الشيعي عبد الوهاب الساعدي الذي يعود مسقط رأسه الى مدينة الصدر الشيعية في بغداد.
الجنرال عبد الوهاب الساعدي اشهر ضابط في الجيش العراقي اكتسب شعبية خلال المعارك ضد تنظيم “داعش”، رغم رتبته العسكرية الكبيرة، كان يظهر في الصفوف الامامية مع جنود قوات مكافحة الارهاب في معارك تكريت والفلوجة والرمادي والموصل ليتحول الى بطل قومي نادر بين شعب يكره سياسييه بالمطلق.
ما زالت اسباب هذا القرار الغريب غير واضحة حتى الان، ولماذا قرر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ذلك بينما تواجه حكومته ضغوطا شعبية هائلة بسبب ضعف الخدمات والفساد والبطالة، تشير التسريبات الى ان تسويات سياسية لاعادة تقاسم المناصب الامنية بين الاحزاب الحاكمة وراء ذلك، وهو شئ ليس جديد في العراق، ولكن القرار له ابعاد اوسع من ذلك بكثير.
هل كان يدرك رئيس الوزراء مدى شعبية هذا الضابط قبل ان يطرده ليضيف سخطا شعبيا اخر من العراقيين ضد حكومته؟، ولماذا اقدم على ابعاد رجل كان يمثل احد ملامح الوحدة الوطنية الناشئة في البلاد بعد معركة الموصل؟
ولكن قضية الجنرال المجروح من قرار الاستبعاد لها ابعاد اخرى، فالساعدي الذي يعتبر ابن المؤسسة العسكرية العراقية، وتدرج في رتبه العسكرية قبل العام 2003 ابان حكم الرئيس السابق حسين، حملته مرحلة التغير الكبير بعد 2003 الى ان يكون ضمن قوات جهاز مكافحة الارهاب الذي تم تأسيسه من القوات الاميركية، حتى بات يعرف لدى بعض العراقيين حتى قبل معركة الموصل، بأنها قوة عسكرية عميلة للولايات المتحدة، واليوم تعود هذه التهمة مجددا.
بعض الفصائل الشيعية القريبة من ايران والتي تواجه وضعا قانونيا مريبا، ويتم اتهامها على انها خارج سلطة الدولة، وجدت في شعبية الساعدي الذي يعمل في قوات الجيش الرسمي احراجا لها امام العراقيين، وكانت جاهزة للرد على التعاطف الشعبي مع الساعدي، بان جهاز مكافحة الارهاب موالي للاميركيين.
في المقابل فأن اللوبي والجناح السياسي العراقي القريب من الولايات المتحدة أيد الحملة الشعبية لدعم الساعدي، ليس لأنهم معجبين فيه، بل لأن الحملة موجهة ضد عدوتها ايران وفصائلها العراقية الموالية لها.
في المحصلة اصبح الساعدي الذي يمثل رمزا للوحدة الوطنية ضحية صراع اميركي – ايراني ولد منذ العام 2003.
تلاقت مصلحة واشنطن وطهران في العام 2003 في القضاء على الدكتاتور صدام حسين، وبقيت هذه المصلحة المحرك الاساسي لكلا الطرفين لتبرير نفوذهما في العراق منذ ذلك الحين.
حتى الان ما زالت الولايات المتحدة تستخدم شعار القضاء على دكتاتور خطير لتبرير فشلها الفادح في مرحلة ما بعد احتلالها العراق، بينما تقول ايران ان نفوذها في العراق هو لمنع ظهور دكتاتور جديد مثل صدام حسين يقوم بتهديدنا مرة اخرى.
منذ العام 2003 اصبح وصف العراق على انه فريقين متصارعين الاول مع ايران والثاني مع الولايات المتحدة، بينما كانت اي اشارات لبروز الوحدة الوطنية العراقية الداخلية يتم سحقها بسبب استمرار التوتر بين الطرفين.
ولكن ما لا يفهمه كلا الطرفين ان لا احد يعرف قسوة صدام وضلمه اكثر من العراقيين انفسهم الذي عاشوا على مدى عقدين في دولة بوليسية من القتل والمقابر الجماعية والحروب الطاحنة مع ايران وغزو الكويت، اليوم فان سردية واشنطن وطهران في صدام حسين لم تعد تعمل بعد الان مع العراقيين.
ايران مصدومة وهي تشاهد مواطنين شيعة من البصرة وذي قار يمتدحون صدام حسين خلال الاونة الاخيرة، ليس حبا به بصدام ولكن كرها بالاحزاب الحاكمة الان، بينما لا تريد اميركا ان تصدق ان هناك فصائل شيعية محبوبة ومحترمة بين العراقيين حتى في المدن السنية، وتسعى واشنطن بأصرار على اعتبار جميع الفصائل الشيعية متطرفة يجب تفكيكها دون تمييز بين الجيد والسيئ.
وسط هذا الصراع العنيف بين الطرفين، يتم سحق الوحدة الوطنية العراقية، لم يكن الجنرال الساعدي مواليا للولايات المتحدة من خلال عمله في جهاز مكافحة الارهاب، وليس كل مقاتلي الفصائل الشيعية الذين تطوعوا لحماية بلدهم من داعش موالين لأيران، فالغالبية من ضابط الجيش ومقاتلي الفصائل الشيعية يجمعهم الانتماء الى العراق، لكن الصراع الاميركي – الايراني هو الاعلى صوتا وتاثيرا.
والمشكلة الاكبر ان الديموقراطية التي ولدت في العراق لم تسمح حتى الان بايجاد قانون انتخابات نزيه يسمح بفوز الاحزاب الوطنية، كانت قوانين الانتخابات بعد العام 2003 تسمح فقط بفوز الاحزاب المتصارعة القادمة من الخارج وبالتالي السيطرة على القرار السياسي دون اي تمثيل حقيقي للغالبية العظمى من العراقيين.
لهذا السبب لجأ العراقيون في الانتخابات الاخيرة الى خيار مقاطعة الانتخابات كأحتجاج ضد جميع الاحزاب المنقسمة بين المحورين الاميركي والايراني، 44% فقط شارك في الانتخابات. وهذه المقاطعة ستتصاعد اكثر في المستقبل.
فشل الاحزاب مؤخرا على اختيار وزيري الدفاع والداخلية بعد ثمانية اشهر على تشكيل الحكومة، اجبرها في النهاية على اختيار رجلين ايضا ينتميان الى مؤسسة الدولة بل حتى انهما اعضاء سابقين في حزب البعث، ولكن ليس اعتناقا شخصيا بل بسبب اجبار ملايين العراقيين على الانتماء الى الحزب مقابل الحصول على وظائف.
عاش وزيرا الدفاع والداخلية داخل العراق قبل العام 2003 وكذلك كان الجنرال الساعدي، لا ينتمون الى الاحزاب القادمة من الخارج، لجأت لهم هذه الاحزاب بسبب خبرتهما في ادارة مناصب حساسة تحتاج الى التكنوقراط، وكما تم طرد الساعدي، ليس مستبعدا ان يتم طرد الوزيرين في المستقبل لنفس الاسباب.
الشئ المؤكد ان استياء العراقيين يتزايد والاحتجاجات تتسع، وسياتي اليوم الذي تخرج فيه التظاهرات عن السيطرة لأسقاط النظام، اذا بقي الوضع على ما هو عليه، كما قال رجل الدين الشيعي البارز علي السيستاني ذات مرة.