تظاهرات مناطقية تسحب البساط من تحت أقدام ساحة التحرير
تتجاوز درجة الحرارة الخمسين مئوية فتزداد معها ساعات القطع المبرمج للتيار الكهربائي وتدخل مياه الإسالة والشرب برنامج القطع أيضاً لتتأثر خدمات الصرف الصحي والمجاري وغيرها فضلا عن غياب خدمات تبليط ورصف الشوارع منذ سنوات، عندها يجد سكان المنازل المتعبة أنفسهم خارجها وجهاً لوجه مع بعضهم بحثا عن حل لم توفره لهم السلطات الخدمية في العاصمة بغداد.
أهالي مدينة الحسينية قرروا أخيرا النزول إلى الشارع العام الذي يربط العاصمة بمحافظة ديالى المجاورة مرورا بمدينتهم (مركز قضاء الحسينية شمال – شرقي العاصمة بغداد) التي لم يشفع لها اسمها عند الحكومة لتقدم لهم ما يغيّر حالها ولو لأدنى مستوى يسمح لهم بالحياة دون أذى.
يتظاهر العشرات من السكان المحليين هنا ليوم ويومين قبل أن يقرروا في الجمعة الأخيرة من شهر تموز (يوليو) الشروع باعتصام مفتوح يغلق الطريق الرئيس للفت نظر الجهات المسؤولة الى مطالبهم التي لا تخرج عن إطار واجباتها تجاههم.
“لم يتم إكمال أي مشروع من المشاريع الخدمية في المدينة على الرغم من أن مئات المليارات صرفت عليها في السنوات العشر الأخيرة” يقول أبو سيف الساعدي المشرف العام على الاعتصام في الحسينية.
سرعان ما انتبهت أعلى السلطات الخدمية في العاصمة لما يحدث في الحسينية ليتوجه المحافظ إليها ويلتقي بأهلها ويقدم لهم الوعود بأن يتغيّر الحال تدريجيا بعد حل ما يمكن حله من مشكلات تعاني منها المدينة، كل حسب نوعها.
الفساد الإداري والمالي والروتين في الدوائر الخدمية للدولة مع مسببات إدارية ومالية أخرى تصل إلى مشكلات هروب المقاولين أو تعرض الشركات الأجنبية العاملة فيها الى التهديد وغيرها من مشكلات باتت معروفة في العراق وعنه كلها عوامل تحول دون توفير أفضل الخدمات للحسينية وغيرها من مدن ومناطق العاصمة، وانتشرت التظاهرات المماثلة في مناطق أخرى كالدورة وجسر ديالى والشعلة والقائمة في اتساع.
يبدو أن السكان المحليين لمناطق العاصمة بغداد باتوا يدركون أن الاحتجاجات التي تهدف الى مطالب عامة لن تؤثر على حياتهم بصورة مباشرة فتخصيص التظاهرات وتحديد مطالبها سيجعلها موجهة نحو الجهة المسؤولة عن هذه المطالب وبالتالي تصبح إمكانية الاستجابة مرتفعة أكثر.
لكن الأمر لا يخلو من أيادٍ سياسية خفية تتلاعب بهذه التظاهرات لتحقيق مصالح حزب ما أو كتلة معينة، فتظاهرات الحسينية – على سبيل المثال – كانت حلقة من سلسلة مشكلات قديمة متجدّدة بين جهتين سياسيتين وهما حزب الدعوة من جهة والتيار الصدري من جهة أخرى.
أهالي الحسينية بغالبيتهم – أو بنسبة مرتفعة منهم – هم من المؤيدين للتيار الصدري الغريم التقليدي لحزب الدعوة والذي أعاد إلى جعبته أخيرا منصب محافظ بغداد بعد أن نجح التيار الصدري في اختطاف المنصب لثلاث سنوات بين عامي 2013-2016.
التيار الصدري أراد أن يتخذ الحسينية ورقة ضغط على المحافظ عطوان العطواني أملا في إزاحته عن المنصب وإعادته الى إحدى شخصيات التيار الصدري” يقول الباحث في الشأن السياسي سيف الخزاعي.
ويضيف “حزب الدعوة فهم اللعبة جدا وقرر أن يخوض التحدي ولم يلقِ اللائمة على المحافظ السابق علي التميمي المنتمي للتيار بل قرر أن يستوعب مطالب المتظاهرين”.
أهالي الحسينية تظاهروا في المدة التي تسلم التميمي لمنصب المحافظ غير أن تظاهراتهم كانت مدعومة أيضا من التيار الصدري ولكن لتقوية المحافظ، كما يؤكد الخزاعي.
ولا يقتصر الأمر على هذا الحد فإذا كانت المشكلة بين حزب الدعوة والتيار الصدري قد أسهمت في تحريك احتجاجات مدينة الحسينية فإن مناطق أخرى تشهد خلافات سياسية على مناصب أقل مسؤولية كأن تكون منصب “القائم مقام” والمسؤولين المحليين والبلديين وغيرها.
فالمحاصصة السياسية التي توزعت وفقا لها المناصب الإدارية في الدولة العراقية من أعلى الهرم تمتد أيضا لتشمل أصغر وحدة إدارية في هذه المنطقة أو تلك وهي بطبيعة الحال غنيمة لا يمكن تجاهلها بالنسبة للكثير من الأطراف السياسية أو على الأقل الشخوص الذين يمثلونها في تلك المناطق على اعتبار أنها تتمتع بمخصصات مالية وغيرها.
وسواء كانت الأهداف وراء تظاهرات المناطق سياسية أم لا فإن الأهم برأي المتظاهرين في المناطق من سكانها المحليين هو أن تعود هذه التظاهرات بالفائدة عليهم وعلى مناطقهم.
تضع تجربة التظاهر في المناطق أكثر من خيار أمام تظاهرات ساحة التحرير لتحديد مستقبلها فالأول هو أن تستمر لتسند تظاهرات ساحة التحرير والثاني هو أنها ستضعف من صوت التحرير.
لكن المؤكد في التوقيت الحالي أن هذه التظاهرات سحبت البساط من تحت أقدام تظاهرات ساحة التحرير فابتعدت الأضواء عنها ولو بصورة مؤقتة نحو المناطق التي وجدت في هذه التظاهرات اختصارا للوقت والمسافة بينها وبين تحقيق مطالبها التي تتركز على الجانب الخدمي بالدرجة الأساس بانتظار أن تثمر احتجاجات ساحة التحرير ولو بعد حين.
لا يريد هؤلاء المتظاهرون أن يتلاشى صوت الاحتجاج هناك في ساحة التحرير لكن الأولوية برأيهم هي لتحقيق المطالب التي تمس حياتهم بصورة مباشرة.