الديمقراطية في الغرب – دروس من غزة
صورة الغلاف من تصميم هاني عباس
مرت خمسة أشهر منذ ان نفذت حماس عمليتها المسلحة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، عملية قام باستخدامها نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لإضفاء الشرعية على اعمال العنف الوحشية ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، والذين يعيشون تحت حصار منذ عام ٢٠٠٦. على مرور خمسة أشهر، نحن نسمع اخباراً حول ضربات إسرائيلية على المناطق الأمنة التي حددتها إسرائيل، انقطاع كامل لخدمات الاتصال في القطاع، استهداف عشوائي للبنى التحتية المدنية مثل المستشفيات والمدارس ومحاولات متعمدة لعرقلة قوافل المساعدات من الوصول الى الفلسطينيين في قطاع غزة، مما ترك ١.١٧ مليون شخص يواجه مراحل حرجة من انعدام الامن الغذائي. وفي الآونة الأخيرة، زُعم ان قوات الدفاع الإسرائيلية فتحت النار على مدنيين يحاولون الحصول على الطعام من قافلة مساعدات مصرية في مدينة غزة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ١١٢ شخص وإصابة ٧٦٠ اخرين. نفى جيش الدفاع الإسرائيلي أي مسؤولية مباشرة، مشيراً الى ان الضحايا نتجت عن التدافع، ومع ذلك، ورد ان المستشفيات عالجت إصابات بالرصاص والشظايا ظهرت على الضحايا.
أن العمليات العسكرية الحالية التي تنفذ ضد سكان غزة لها أثر كبير على المستوى الدولي. ما نشهده في الوقت الحالي هو زيادة التوتر بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. خلال الأيام الأخيرة من عام ٢٠٢٣، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، المتكونة من الدول الأعضاء، قراراً يدعو الى وقف فوري لإطلاق النار، إضافة الى إطلاق الرهائن، اضافةً الى ضمان وصول المساعدات الإنسانية. في هذا الصدد، يصور القرار طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة بالامتثال لالتزامات القانون الدولي، وخاصةً عندما يتعلق الامر بحماية المدنيين. وبينما صوت الأعضاء بأغلبية ساحقة لصالح القرار، رفضته الولايات المتحدة.
بعد مرور أكثر من شهر على حكم محكمة العدل الدولية بأن على إسرائيل اتخاذ إجراءات فورية فعالة لمنع الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة، لم تتخذ قوات الاحتلال أي خطوات ملموسة في هذا الاتجاه.
وأخفقت السلطات الإسرائيلية في ضمان وصول السلع والخدمات المنقذة للحياة إلى السكان المعرضين لخطر الإبادة الجماعية والذين هم على شفير المجاعة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل وتشديد حصارها غير القانوني المستمر منذ 16 عامًا. كما تقاعست إسرائيل عن رفع القيود المفروضة على دخول السلع المنقذة للحياة، أو فتح منافذ وصول ومعابر إضافية للمساعدات أو وضع نظام فعّال لحماية العاملين في المجال الإنساني من الهجمات. (منظمة العفو الدولية – ٢٦ فبراير، ٢٠٢٤)
انحازت العديد من الدول الأوروبية الى جانب قوات إسرائيل المحتلة منذ أكتوبر ٢٠٢٣ (ومن الواضح حتى قبل ذلك بفترة طويلة)، مع وجود بعض الاستثناءات مثل ايرلندا المناصرة لفلسطين. ولكن على الرغم من أن بعضهم اضطر خلال الأشهر الماضية الى التعبير – بحد أدنى على الأقل – من القلق إزاء بعض الاحداث الأخيرة، الا ان الحكومات استمرت في دعم الاحتلال الإسرائيلي. وفي عديد من الدول، لا يشارك المواطنون الرأي مع حكوماتهم. منذ أكتوبر ٢٠٢٣، اندلعت احتجاجات ومظاهرات مناصرة لفلسطين في دول اوروبية اضافةً الى الولايات المتحدة، تندد بتواطؤ الحكومات الغربية مع الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وبالمقابل قوبلوا بقمع شديد من قبل السلطات، وفي بعض الحالات بعنف من قبل الشرطة. في فرنسا، في منتصف أكتوبر ٢٠٢٣، أصدر وزير الداخلية بأمر لحظر كل التظاهرات المناصرة لفلسطين، وفي المانيا، حظرت السلطات الاحتجاجات وقيدت استخدام العلم الفلسطيني والكوفية. في العديد من البلدان، دعت نقابات العمال والمجموعات غير الرسمية الى الاضراب للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. في ٢٣ فبراير، تعرض الطلاب في بيزا وفلورنسا (في إيطاليا) والذين كانوا يحتجون سلمياً مطالبين بوقف إطلاق النار في فلسطين للضرب على ايدي رجال الشرطة، وكان بينهم طلاب قاصرين.
سيكون للعدوان على غزة اثار طويلة الأمد، ليس فقط على المواجهة العسكرية في المنطقة – حيث شهدنا تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والجماعات المسلحة المدعومة بإيران من اليمن الى العراق ومروراً بسوريا – بل على المجتمع بأكمله في الشرق الأوسط، وكذلك في الدول الغربية. وفي ضوء العمليات ضد المليشيات الموالية لإيران في العراق، بدأت الحكومة في بغداد بحث الولايات المتحدة على سحب القوات التي لا تزال متواجدة في البلد، كجزء من التحالف الدولي ضد داعش. ويعرب الناشطون المدنيون العراقيون، داخل وخارج البلاد، عن شعورهم بالغضب وخيبة الامل تجاه الدول الغربية لدعمها التام لقوات الاحتلال الإسرائيلي. كل هذا يهدد بعرقلة التحالفات العابرة للحدود التي بنتها الجهات المدنية على مدى السنين. ومع ذلك فأن التظاهرات والاحتجاجات في العديد من المدن في جميع انحاء اوروبا والولايات المتحدة تظهر بوضوح إن الشعوب لا تدعم تصرفات حكوماتهم الداعمة لإسرائيل. من الواضح اليوم ان الفجوة تكبر بين الشعوب وحكوماتهم في الغرب. سيكلف الدعم الاعمى لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي الحكومات الغربية غالياً، مع تمكن العديد من المواطنين اخيراً من رؤية ازدواجية الدول التي تلتزم بالإمدادات الجوية في غزة، وفي الوقت ذاته تبيع الأسلحة لقوات الاحتلال الإسرائيلي. تكشف الحرب في غزة الظروف الحقيقية للديمقراطية اليوم في ما يسمى بالعالم الحر: عالم لا يشعر فيه الجزء الأكبر من السكان بأنه ممثل من قبل الأحزاب السياسية، حيث تختزل الديمقراطية الى الادلاء بأصواتهم مرة كل اربع او خمسة سنين، حيث تتعرض الحريات المدنية لخطر التقييد بأسم الامن، وحيث يتم إضفاء الشرعية لعنف الشرطة من قبل الأحزاب الموجودة في السلطة. ولكن في الوقت نفسه، ان المعارضة للعدوان في غزة تفتح المجال للأشخاص الذين عادةً ما يتركون على هامش الخطاب العام، ويفتح الأبواب للحركات الاجتماعية للعمل والتعاون. في العديد من البلدان، اخذ الشباب الفلسطينيين على عاتقهم قيادة اعمال التحشيد الجماهيري – فارضين وجودهم في المساحات العامة ومطالبين بأن تُسمع أصواتهم. في المساحة التي يمكن التعبير فيها عن الآراء من دون خوف، حيث لا يتحدث الناس فقط، بل يمكن سماعهم – هنا تقف الديمقراطية.