هل انتهى الاحتجاج العراقي؟
من الواضح أن القوى السياسية، والمليشيات المسلحة المسيطرة على القرار الرسمي العراقي، قد اختارت بشكل قاطع عدم التمعن في معطيات الاحتجاج العراقي الصاعق ونتائجه وعدم بحث خيارات مختلفة بخصوص طرق التعاطي معه، واختارت بدلا من ذلك الطريق السهل في فض الاعتصامات ومنع التظاهرات، ومن ثم العمل على تصفية من يُعتقد أنهم الأكثر نشاطا في انتفاضة تشرين (أكتوبر) العراقية.
على أي حال، فإن دفع الأزمات إلى الأمام ليست سياسة استثنائية في العراق، بل تكاد تكون السياسة الأكثر شيوعا لدى الزعماء العراقيين الذين فشلوا منذ 2003 في إنتاج أية حلول، وراقبوا بعبث مريب تطور الغضب وتفشي اليأس والإحباط في صدور المواطنين الذين واكبوا إدارة الحكومات المتعاقبة غير الكفؤة لملفات تمس حياتهم ومستقبلهم مثل صراع الهويات، واستشراء الفساد، وبيع المواقف السياسية لصالح الأجنبي، حتى انفجروا في حراك اجتماعي غير مألوف، تعرف بدايته من دون أن تتحدد نهايته.
يحاول النظام الإيحاء بتلقيه دعما إقليميا ودوليا غير محدود لتنفيذ خطط تصفية الاحتجاج
ليس بالأمر الجديد أن يحاول الزعماء أنفسهم، الذين رعوا مهرجان الفساد والرثاثة والعته السياسي منذ سنوات، تجاوز البديهيات في فهم الحراك الشعبي، والقفز إلى مفهوم “الانتصار” على الشعب نفسه باستخدام أدوات القمع التقليدية مثل توسيع نطاق العنف المفرط في مواجهة التظاهرات، وتنفيذ أعمال خطف واعتقالات خارج النصوص القانونية والدستورية، والتهديد باستخدام النظام القضائي المثير للشكوك لتلفيق التهم للمعارضين.
الأدهى أن النظام نفسه يحاول، إضافة إلى نشر اليأس حول إمكانية التغيير الإيجابي والدستوري الذي يطالب به المتظاهرون، الإيحاء بتلقيه دعما إقليميا ودوليا غير محدود لتنفيذ خطط تصفية الاحتجاج ومن ثم اقتلاع جذوره ومنع تفجره في مراحل لاحقة.
يمكن القول جزئيا إن الحكومة العراقية المحكومة بإرادات زعماء القوى وأمراء الطوائف، بالإضافة إلى الإرادتين الإيرانية والأميركية، نجحت بنشر الضبابية حول حجم ومستوى القمع الإجرامي الذي استخدم في قمع التظاهرات.
كما يمكن القول إن الحكومة حاولت عبر ربط نفسها باستقرار العراق المطلوب دوليا، والتحذير من إمكان عودة الجماعات المتطرفة للسيطرة على المدن العراقية في حض دول مهمة عبر العالم، بالإضافة إلى بعثة الأمم المتحدة في العراق على الصمت عن جملة من الانتهاكات الفاضحة التي ارتكبتها قوات أمنية رسمية بحق الأهالي المدنيين، والاستعانة بمليشيات غير رسمية لتنفيذ تلك الارتكابات.
كما يمكن الجزم، بنوع من الكوميديا السوداء، بأن القوى السياسية المتورطة بالفساد وتقاسم مقدرات البلد نجحت في تحقيق بعض المكاسب من الاحتجاجات التي خرجت ضدها، فمررت أسماء وزراء وفق التوليفة المحاصصاتية، وتقاسمت مجلس الخدمة الاتحادي، وشبكة الإعلام العراقية، واستحوذت على المئات من المناصب الخاصة، ومررت صفقات ما كانت ستنجح في تمريرها لولا أنها ألغت بشكل مستعجل وتحت ظلال الاستجابة لمطالب المتظاهرين صلاحية مجالس المحافظات الحالية.
فموضوع مثل إجراء تعديل دستوري يسمح بتحويل النظام البرلماني إلى رئاسي، كان قد تصدر الفوضى المعلوماتية حول الطلبات الحقيقية للمتظاهرين، مع أنه من مطالب “ائتلاف دولة القانون” بزعامة نوري المالكي منذ العام 2010، ومن ثم من مطالب “عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي منذ 2018.
طريقة التعاطي العنيفة مع احتجاجات تشرين لن تنهي الاحتجاج
واقع الحال أن ما يتم الحديث عنه حول الاستجابة لمطالب المتظاهرين، كان في واقع الحال استجابة إلى متطلبات المحاصصة التي خرج الناس ضدها، فيما رفضت القوى الرئيسية التعاطي مع مطالب جوهرية مثل التأسيس لقانون انتخابي عادل وإجراء انتخابات ومبكرة ومفوضية مستقلة، ونظام محاسبة حقيقي لمن تورط بدماء المحتجين.
واختيار فض التظاهرات بالقوة بدل التعاطي مع مطالبها الدستورية بمسؤولية، هو وحده ما سيجيب عن السؤال المحوري حول مستقبل الاحتجاج العراقي الذي استمر يعبر عن نفسه بطرق مختلفة منذ العام 2011 من دون أن يلاقي آذانا صاغية، فيطور آلياته لتصبح أكثر عنفا، وتطور سلطة الأحزاب الأوليغارشية العراقية مستوى عنفها، وتزيد من تمترسها.
والمحصلة أن طريقة التعاطي العنيفة مع احتجاجات تشرين، واختيار معاقبة الشعب العراقي واتهامه بالتآمر بدل احتواء غضبه المحق، لن ينهي الاحتجاج وإنما سيفتح احتمالاته المستقبلية على خيارات أكثر عنفا وأكثر خطورة، كما أن الإبقاء على آليات حل الأزمة قيد التعطيل والتعاطي معها بيد حكومة مشغولة بخرافة الانقلاب عليها، ومجموعات مسلحة منكبة على استغلال الاحتجاج للاستيلاء على القرار الأمني الرسمي لصالحها، وقوى سياسية تتآمر لنيل المكاسب والمناصب من آلام المتظاهرين وتضحياتهم، هي وصفة خراب إضافية لبلد ابتلي بنقص حكمة حكامه.