أربع مشاهد، من الواقع العراقي
٨٥ يوماً، ١١ محافظة، ٤٨٥ شهيد، ١٩٠٠٠ جريح، وتستمر الحركة الاحتجاجية الاوسع في العراق والتي اشتهرت بإسم “ثورة تشرين” بمطالبها الداعية الى تغيير جوهر النظام السياسي، تصحيح مسار الدولة وسيادة الهوية الوطنية، مناهضة الفساد المالي والإداري، ومحاسبة المتسببين بقتل المحتجين السلميين ومن كان له يد في قمع أصواتهم. المقال ادناه يستعرض جملة من المشاهد الموضوعية حول الواقع العراقي الراهن بإطاره العام وبما يحمل من تباين ومتغيرات.
المشهد الأول – تجاوب حكومي حذر واحتيال على المطالب
عمدت النخب السياسية منذ انطلاق الاحتجاجات الى ابداء ردود أفعال متباينة إزاء المطالب المطروحة، امتدت بين التخوين والتشكيك والتمسك بالمواقف المتجمدة إزاء أي تغيير منشود، وصولاً الى التنازل والانصياع المتردد بتأثير الضغط الاحتجاجي، والذي ظهر جلياً بأوضح صوره في قبول استقالة حكومة عبد المهدي، ثم الدخول بمرحلة صراع سياسي جديد عنوانه “شكل المرحلة الانتقالية” ومضمونه الحفاظ على أكبر قدر من المغانم والمكتسبات، وتلك هي المرحلة الحالية.
بعد ان سلم رئيس مجلس الوزراء السابق عادل عبد المهدي استقالته للبرلمان بتاريخ ١ كانون الأول ديسمبر – والتي وصفت بأنها جاءت متأخرة – بدأ ميدان المعترك السياسي بالغليان بحثاً عن البدائل المتاحة التي تنقذ أحزاب السلطة من خسارة نفوذها وهيمنتها. وبحسب المادة ٧٦ من الدستور العراقي، وتنص: “يكلف رئيس الجمهورية، مرشحا جديدا من الكتلة النيابية الأكبر، لمنصب رئيس الوزراء، على أن يتولى هذا المرشح اختيار تشكيلة حكومية، خلال فترة لا تزيد على ثلاثين يوما، لتعرض على البرلمان”، خاضت الكتل السياسية داخل قبة البرلمان وخارجه مفاوضات متشعبة لترشيح رئيس وزراء جديد يتناسب وطموحاتهم السياسية ورغبتهم بالإمساك بمفاصل الدولة. من جانبها أعلنت كتلة سائرون النيابية تنازلها عن حقها في ترشيح رئيس وزراء بصفتها الكتلة الاكبر لتترك هذا القرار للجماهير المحتجة وساحات التظاهر، فيما سارعت الكتل الأخرى بالبحث في صفوفها عن أسماء لخلافة عبد المهدي.
فيما نفى محتجو ساحة التحرير في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى ترشيحهم أي اسم بعينه، بل قاموا بوضع قائمة من المعايير الواجب توفرها في شخص رئيس الوزراء عوضاً عن ذلك، ومن أبرز هذه المعايير:
- ان لا يكون من المنتمين لأحزاب السلطة او ممن شغلوا منصب رسمي خلال الحكومات السابقة.
- من المعروفين بالنزاهة والمقبولية لدى الشارع العراقي، ولم تتلطخ يده بالفساد او أثيرت حوله الشبهات.
- ان يحمل الجنسية العراقية حصراً، وليس من مزدوجي الجنسية.
- ان يمهد لانتخابات مبكرة ولا يشارك في الترشيح للدورة الانتخابية المقبلة.
كما سلم ١٢٠ نائباً رسالة موقعة منهم الى السيد رئيس الجمهورية برهم صالح، تضمنت الشروط المذكورة أعلاه لاعتماد رئيس وزراء جديد. من جانبها دعت المرجعية الدينية العليا في النجف وخلال أكثر من خطبة، الكتل السياسية للانصياع لمطالب الجماهير المحتجة والكف عن التأخير والتسويف واللعب بورقة المماطلة لكسب الوقت.
يذكر ان المزاج العام للجماهير المحتجة يسير باتجاه اختيار رئيس وزراء يقوم بمهام إدارة حكومة انتقالية تشرف على تغيير قانون الانتخابات وقانون المفوضية العليا للانتخابات وتمهد لتنظيم انتخابات مبكرة في مدة تتراوح بين ٦ أشهر وسنة، فيما يقوم البرلمان الحالي بالتصويت على القوانين المذكورة ويحل نفسه بعد ذلك. الا ان العجز السياسي عن إيجاد البديل المقبول لمنصب رئيس الوزراء خلال المدة الدستورية المنصوصة وهي ١٥ يوم، والتي انتهت مساء يوم الخميس ١٩ ديسمبر، أسهم في تعقيد المشهد، لتتجه الأنظار صوب جلسة يوم الاحد ٢٢ ديسمبر والتي كان من المتوقع ان تشهد الإعلان عن اسم المرشح لشغل هذا المنصب ليدخل البلد في مرحلة الفراغ الدستوري بعد العجز عن اختيار البديل. وفي حال عجز البرلمان عن تقديم مرشح خلال فمن المرجح ان يتولى السيد برهم صالح رئيس الجمهورية مهام رئيس الوزراء بحكم الامر الواقع لمدة ١٥ يوم أخرى وفق المادة ٨١ من الدستور، على ان يكلف خلالها مرشحاً جديداً.
المشهد الثاني – قمع وترهيب واغتيالات وترويع
من جانب اخر وبعيداً عن مشهد الصراعات السياسية، فقد ساهمت استقالة رئيس مجلس الوزراء عبد المهدي بإضافة أجواء من الهدوء النسبي الحذر في ساحات الاحتجاج بين المحتجين وقوات مكافحة الشغب والأجهزة الأمنية الأخرى، حيث انخفضت معدلات استخدام الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع ضد المتظاهرين بشكل واضح خلال الأسبوعين الأخيرين، وقلت حدة المواجهات بين الطرفين الى أدني مستوياتها منذ اندلاع الحراك في ١ أكتوبر، مع وجود مواجهات طفيفة متفرقة هنا وهناك. يقابل هذا من جانب اخر تنامي مشهد أكثر دموية ومأساوية يبدو ان لأحزاب السلطة وميليشياتها دوراً بارزاً فيه، حيث تزايدت وتيرة الاستهداف الموجه ضد النشطاء والمساهمين في الحراك الاحتجاجي منهم على وجه التحديد. وتنوعت اشكال الاستهداف بين تهديد مباشر وغير مباشر، وكذلك تزايد حالات الاختطاف والتغييب القسري، وصولاً الى تكرار المشهد المأساوي لمسلسل الاغتيالات الموجهة ضد الناشطين والمحتجين، في مشهد يعيد للأذهان ذكريات أيام الانفلات الأمني وفوضى السلاح، مع عودة الوسائل التقليدية لهذه العصابات للظهور من جديد كالعبوات اللاصقة والمسدسات الكاتمة للصوت والسيارات المضللة بدون الواح. من جانبها، وخارج ساحات التظاهر، كثفت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية العراقية من حملتها الهادفة الى ملاحقة واعتقال أكبر عدد ممكن من النشطاء الفاعلين والمؤثرين ممن لهم دور في حركة الاحتجاج، بدون أوامر قضائية او تهم موجهة ضدهم، وبشكل تعسفي.
المشهد الثالث – ثبات ثوري وصمود مستمر
مع دخول فصل الشتاء وتناقص درجات الحرارة أصبحت ظروف المبيت والاعتصام في ساحة التحرير وساحات الاعتصام الأخرى أصعب مما كانت عليه، حيث ان درجات الحرارة ليلاً تنخفض بشكل كبير، لتضع المحتجين في ظروف مناخية قاسية. غير ان هذا الواقع لم يؤثر في ثبات المحتجين وصمودهم في الميادين، بل على العكس شهدت الساحات تزايد اعداد الخيم لتكون منطلقاً لنشاطهم الاحتجاجي صباحاً ومأوى لطالبي الدفء ليلاً.
في ساحة التحرير ببغداد يستثمر الشباب المنتفضين فترة وجودهم هناك لتعزيز الطابع المدني لنشاطهم، حيث يساهم يومياً مئات الشباب والفتيات بأنشطة مختلفة تتنوع بين الأنشطة الثقافية والتوعوية والترفيهية. فبعد حملات صبغ الأرصفة وتلوين الجدران وتنظيف الطرق وانارة الشوارع، باشر النشطاء ايضاً ببناء مساحة للأنشطة البدنية والرياضية على جرف نهر دجلة وملعب للكرة الطائرة سميت “شاطئ التحرير”، كذلك تم انشاء سينما الثورة لعرض أفلام عراقية قصيرة تحاكي واقع الحراك وخلفياته، كما تم بناء عدد من المسارح لتقديم عروض حماسية وثورية. من جانب اخر تشابهت اشكال النشاط الاحتجاجي في المحافظات العراقية الأخرى مع أولوية الحفاظ على سلميتها ومدنيتها.
المشهد الرابع – تدخل إقليمي وحاجة لتضامن دولي أكبر
مع تصاعد الاحداث وتسارع وتيرتها يبرز الدور الإقليمي كلاعب أساسي وفاعل في المشهد السياسي العراقي، وتقف إيران على قمة الأطراف الإقليمية ذات التأثير والنفوذ، وتساهم مع حلفاءها من الأحزاب والميليشيات داخل العراق بمحاولة اجهاض عملية التغيير المنشود على المستوى الوطني، لغرض الحفاظ على التوازنات التي حققتها إيران في العراق خلال فترات حكم الحكومات السابقة. على هامش هذا التحرك، تشهد الساحة العراقية سطوة كبيرة لمجاميع وميليشيات مسلحة مدعومة من الخارج، لتصفية المعارضين وتكريس الجهود الساعية لتنقين حدة الحراك.
فيما أصدرت العديد من الأطراف الدولية المهتمة بالشأن العراقي نداءات مهمة لوقف القمع الموجه ضد المتظاهرين السلميين، لكن الحاجة لا تزال متزايدة لهذا النوع من التضامن الدولي وبشكل اكبر، خصوصاً مع كل التحديات الصعبة التي يواجهها المحتجون في الميادين.