العراق في 2014.. جسدٌ ممّزق!
يتفق العراقيون على أن عام 2014 كان اسوأ كابوس عاشته بلادهم من بين كوابيسهم التي عاشوها بعد عام 2003، فثلث ارض بلادهم تحت سيطرة تنظيم “داعش”، وهنالك ملايين النازحين وآلاف القتلى ولا يخلو زقاق في هذا البلد من شخص مسلح سواء كان جندياً نظامياً أو عضو ميليشيا شيعية أو فصيلاً سنياً مسلحاً.
لن تحصل على وصف دقيق لما جرى للعراق في 2014 من أي مواطن عراقي مثلما يفعل سوران شريف وعمره(52 عام)فهو يزور معظم المدن العراقية في الشهر الواحد، ويلتقي جميع مكونات الشعب من السنة والشيعة والكردي والتركمان والآيزيديية والمسيحيين والصابئة بسيارته الصغيرة ذات المقاعد الخمسة.
يقول سوران وهو كردي لكنه يعيش في بغداد منذ أربعين عاماً ويرفض مغادرتها، ويعمل كسائق أجرة بين المحافظات، لـ “نقاش” أن “العراق أصبح كالروح بلا جسد، فما زالت جنسيتنا عراقية لكننا لم نعد نستطيع زيارة جميع المدن بسبب أحداث عام 2014 “.
ويسمي سوران سنة 2014 بـ “الكريهة لأنها لم تجلب للعراقيين سوى الأحزان والأحقاد، وهي أسوأ سنة مرت عليهم منذ عشر سنوات كما يقول، كما انه من أشد المتلهفين لقدوم 2015 اعتقاداً منه أن العراق أصابته لعنة في 2014 وستزول في 2015.
استدراج سوران للحديث عن رأيه بـسنة 2014 لكتابة موضوع عن أحداث العراق خلال هذا العام أخذ منحى آخر، وابتعد عن الحوار التقليدي بين سؤال جواب ينتهي بطلب محدثك منك إرسال رابط الموضوع الألكتروني بعد نشره، الأمر مع سوران مختلف، فهذا الرجل اختصر مأساة بلاده بعبارة عميقة حين قال: “العراق أصبح روح بلا جسد”.
وسبق سوران سؤال لتوضيح هذه العبارة وأشار إلى سيارته ذات اللون الأصفر والمخصصة للأجرة وقال “بسيارتي هذه زرت جميع محافظات العراق من البصرة جنوباً وحتى دهوك شمالاً والأنبار غرباً وديالى شرقاً، مهنتي كانت ربط العراقيين ببعضهم البعض، لكن السياسيين والإرهابيين قاموا بتفكيك وتقسيم الروابط بين المواطنين”.
تتطلب مهنة سوران نقل الركاب من بغداد إلى باقي المحافظات، وفي كل يوم يسلك طريقاً مختلفاً فتارة يذهب إلى البصرة لنقل مهندسين بغداديين يعملون في حقول النفط في البصرة، وعند طريق العودة يجلب معه جنود من سكان البصرة إلى عملهم في بغداد، وتارة ينقل تجار صغار أو أصحاب وظائف من بغداد إلى أربيل والسليمانية، ويجلب معه من هناك مواطنين أكراد يعلمون في بغداد.
وهكذا، فلا يفوت شهر على سوران دون أن يزور جميع المدن العراقية، لكن هذا الحال تغيّر في 2014، إذ لم يستطع بعد اليوم نقل الركاب الى جميع المدن في بلاده، إذ إن أربع محافظات هي(الانبار، صلاح الدين، الموصل، وديالى)أصبحت تحت سيطرة “داعش”، كما انه لن يستطيع الذهاب إلى مدن إقليم كردستان(اربيل، السليمانية، دهوك)لان طريقها يمر بمدينتي صلاح الدين وديالى.
في بداية عام 2014 قرر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي فض التظاهرات السلمية للسنّة في الأنبار وصلاح الدين بالقوة العسكرية، وهو ما قلب أوضاع البلاد رأساً على عقب، حيث حملت العشائر السنية السلاح، لكن تنظيم “داعش” استغل هذه الفوضى ونجح في احتلال مدينة الفلوجة في الأنبار والتي لا تبعد سوى 40 كلم عن بغداد.
وفي العاشر من حزيران(يونيو)وسع “داعش” نفوذه واحتل مدينتي الموصل وتكريت وأجزاء واسعة من ديالى والأنبار بعد انهيار الجيش العراقي هناك، وهذه المدن مجتمعة تمثل حوالي ثلث مساحة العراق.
هذه المدن واقعة بين المدن الشيعية في وسط وجنوب العراق والمدن الكردية شمال البلاد، وهو ما قطع الطريق البري بين هذه المدن التي تجري عليها الآن معارك بين جنود نظاميين وعناصر ميليشيا وفصائل سنية مسلحة وعشائر.
وفي 13 من حزيران(يونيو)2014 دعا رجل الدين الشيعي البارز علي السيستاني العراقيين إلى التطوع لوقف خطر “داعش” الذي وصل إلى أسوار العاصمة بغداد، وهدد باقتحام مدينة كربلاء التي تضم مراقد دينية مهمة جداً للشيعة.
يشعر سوران بالحزن على واقع بلاده، ويقول “بحكم مهنتي في نقل الركاب التقيت العراقيين من جميع الأديان والطوائف والاعراق وعندما كنا نتبادل الحديث لم نكن عنيفين بل متحابين ومتفقين على إن السياسيين وراء مأساة بلادنا، فهل كانوا يجاملون بعضهم بعض في العلن ويضمرون في قلوبهم الكره لبعضهم البعض؟”.
ويجيب سوران عن سؤاله: “كلا نحن نحب بعضنا البعض، فأنا أحب تمر البصرة عندما أمزجه باللبن الكردي الشهير، وذات مرة أصرّ أحد زبائني من سكان الأنبار أثناء توصيله لتناول الغداء في ديوان عشيرته عندما عرف بأنني كردي ورغبت تذوق أكلة شعبية معروفة في الأنبار تسمى “الدليمية”.
حكايات وذكريات سوران عن زبائنه لا تنتهي، وغالبا ما ترتبط ببعضها البعض مثلما ترتبط بشوارع وأزقة ومعالم تاريخية من مختلف المدن في بلاده، وانه كما يقول لا أحد يستطيع منافسته على معرفة الطرق والمناطق والقرى في جميع هذه المدن.
ومع نهاية عام 2014 ما زالت العديد من جبهات القتال مشتعلة وهي تبدأ من مدينة بعقوبة في ديالى شرق بغداد ومدن بيجي والعلم وسامراء وتكريت في صلاح الدين شمال بغداد، والرمادي والفلوجة وهيت وحديثة في الأنبار غرب بغداد.
وبسبب هذه المعارك تقطعت أوصال البلاد بريّاً، وأصبح التنقل بين المدن الجنوبية مع الشمالية والغربية مستحيلاً، وهو ما أثر على الوضع ألمعاشي لسوران ومعه المئآت من الذين يمتهنون نقل المسافرين عبر المحافظات، والآن يقتصر عملهم على نقل المسافرين بين بغداد والمحافظات الجنوبية.
على الصعيد السياسي شهد العراق إجراء انتخابات برلمانية في 30 من نيسان(ابريل)هي الأصعب منذ عشر سنوات، وكان التنافس شرس للغاية بين جبهتين، الأولى بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والثانية ضمت معارضي المالكي من أحزاب سنية وشيعية وكردية.
وعلى الرغم من فوز ائتلاف المالكي بالمرتبة الأولى في الانتخابات وحصول المالكي شخصياً على أعلى نسبة من الأصوات، لكنه فوجئ بموجة اعتراضات محلية ودولية وإقليمية لتوليه ولاية ثالثة للحكم كانت أقوى من فوزه وأجبرته على التنازل من الحكم لأحد زملائه في حزب “الدعوة” وهو حيدر العبادي.
العبادي تسلم رئاسة الحكومة في االثامن من أيلول(سبتمبر)وهو يعمل جاهداً على إجراء إصلاحات في البلاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد ثمانِ سنوات من حكم المالكي الذي يتهمه خصومه من الشيعة والأكراد والسنة، بسوء الحكم والتصرف بطائفية وعنصرية.
أما سوران فما زال متفائلاً بسنة 2015 ويقول”أتمنى إن استيقظ في أول يوم من السنة الجديدة وأرى إن كل ما يجري كان مجرد كابوس”، وهو يرفض تقييم عمل الحكومة الحالية ويقول “متى ما عدت استطيع التنقل بسيارتي في جميع المحافظات عندها سأكون متأكداً إأن الحكومة جيدة والأوضاع عادت مستقرة مجدداً”.