ما زالت أور غنيّة بالآثار… والمطلوب حمايتها
الناصريّة – المونيتر
في بداية فبراير/شباط من عام 2015، كشفت بعثة تنقيب بريطانيّة في آثار أور وهي موقع أثري لمدينة سومرية ، ورد ذكرها في العهد القديم، الواقعة في محافظة ذي قار( 375 كلم جنوبيّ العاصمة بغداد)، عن أقدم مركز تجاريّ في العالم وأكبره، وهو يعود إلى العصر البابليّ القديم (2006-1595 ق.م).
وأكّد هذا الاكتشاف الأهميّة الاستثنائيّة لآثار أور، الّتي لم تستكشف بعد. وفي واقع الحال، أنّه رغم سوء الأوضاع الأمنيّة في العراق، إلاّ أنّ حقل التّنقيب واصل عمله الإنتاجيّ بوتيرة متصاعدة في السنوات الأخيرة، بحثاً عن آثار ما زالت مدفونة في هذه المنطقة الّتي يعدّها الآثاريّون منجماً كبيراً.
وكانت بعثة آثار بريطانيّة قد اكتشفت في بداية مارس/آذار من عام 2013، بمساعدة الأقمار الصناعيّة، بقايا معبد قديم هائل الحجم.
ونظراً إلى أهميّة آثار أور والتوقّعات المثيرة في شأنها، اتّصلنا بالإعلاميّ والمهتمّ بشؤون الآثار علاء الكولي، وهو يعيش بالقرب من اثار اور ويزورها مع الباحثين والزوار الأجانب، واقترح على “المونيتور” القيام بجولة ميدانيّة في المكان تتضمّن زيارة الزقورة الشهيرة، حيث كان يعبد إله القمر نانا.
لقد عبرت السيّارة نحو 16 كيلومتراً في عمق صحراء الناصريّة، وحين ظهرت ملامح المكان، أشار كولي بإصبعه إلى العشرات من التلال الصغيرة والكبيرة الّتي لم يجر التّنقيب فيها بعد، وأشار كذلك إلى فتحات وحفر، قال إنّ لصوص الآثار أحدثوها فسرقوا المئات من القطع الأثريّة، وقال: “حصل ذلك تحديداً في عام 2003، عندما سقط نظام الرّئيس العراقيّ السّابق صدّام حسين، وحدثت فوضى أمنيّة عارمة في أغلب مناطق العراق”.
وعندما كان يتحدّث، برزت من بعيد زقورة أور الشهيرة، الّتي بناها الملك أورنمو قبل نحو 2100 ق.م لعبادة إله القمر.
وبعد مشاهدة الزقورة عن قرب، اقترح كولي زيارة البيت الّذي شهد ولادة النبيّ إبراهيم، الّذي وردت سيرته في سفر التكوين وفي القصص القرآنيّة، ويطلق عليه بأبي الأنبياء. وكان البيت عبارة عن أسس آجريّة تقع في ما يفترض أنّه مجمّع سكنيّ، وهو يبعد عن الزقورة نحو 500 متر، وما زال المسلمون والمسيحيّون يزورونه.
وفي الواقع إنّ المكان كلّه هو عبارة عن أطلال بيوت وأبنية في صحراء شاسعة. وههنا لا تسقط العين، إلاّ على أسس هياكل مبنيّة من الطابوق وغطّتها رمال مئات السنين. ولقد تعرّفنا بين هذه الأطلال على أحد عمّال الحفر، الّذي رفض الكشف عن اسمه، وأخبرنا أنّ البعثات الأثريّة عثرت في الأشهر القليلة الماضية على عدد كبير من الوثائق الطينيّة الّتي كتب عليها بالخط المسماريّ، فضلاً عن الأواني الفخاريّة وأدوات أخرى مختلفة، لافتاً إلى أنّه كان قد شاهد ذلك بنفسه.
وتجوّلنا في المكان فلم نر غير عدد قليل من الزوّار، وأغلبهم كانوا سيّاحاً من تركيا وإيران، إضافة إلى عدد من العراقيّين، فانشغلوا بتفحّص المكان والتقاط الصور. وما أثار اهتمامنا عدم وجود لوحات إرشاديّة تصف وتشرح باختصار ما يشاهده الزوّار. وللتّعويض عن ذلك، اتّصل “المونيتور” بالمنقّب الآثاريّ عامر عبد الرزّاق، وهو أيضاً المشرف على التّنقيب، فحدّثنا عمّا يجري حاليّاً من أعمال تنقيب في محافظة الناصريّة، وقال: “هناك بعثة تنقيب إيطاليّة تعمل في الوقت الحاضر في تلّ أبو طبيرة بمركز مدينة الناصريّة، وفي تلّ زرغل الواقع بقضاء الدواية (55 كلم شمال شرق الناصريّة)، وهناك أيضاً بعثة بريطانيّة تنقّب في تلّ خيبر الواقع لجهة البطحاء (35 كلم غرب مدينة الناصريّة)”.
وحدثنا عن الاكتشاف الجديد، لافتاً إلى أنّه “عبارة عن سجلاّت تجاريّة تتضمّن توزيع الحبوب وأثمانها، ويعود تاريخها إلى عهد الملك البابليّ حمورابي (1792-1750ق.م)”.
ورأى أنّ هناك أوضاعاً سلبيّة يجب أن تعالج، وقال: “رغم أنّ هناك نحو 1200 موقع أثريّ في مناطق المحافظة المتعدّدة، فإنّ عدد الحراس لا يزيد عن المئة حارس، ممّا يغري سالبي الآثار ويدفعهم إلى المجازفة والتّنقيب غير الشرعيّ”.
وما يحسّن الصورة وجود حركة تنقيب واسعة في المكان ومستقبل واعد في أعمال التّنقيب وفي تحويل هذه المنطقة إلى مركز سياحيّ عصريّ يجذب الاستثمار والأموال إلى المحافظة، هذا ما أكّدته لـ”المونيتور” رئيسة لجنة السياحة والآثار في مجلس ذي قار أجيال الموسوي، الّتي قالت أيضاً: “إنّ بعثة فرنسيّة ستنقّب في موقع كرسو الأثريّ الواقع لجهة النصر (60 كلم شمال الناصريّة) في بداية أكتوبر/تشرين الأوّل من هذا العام، وهناك أيضاً فرقة تنقيب أميركيّة ستباشر عملها في سبتمبر/أيلول المقبل برئاسة الدكتورة اليزابيث ستون من جامعة نيويورك. وفي نهاية هذا العام، ستنقّب بعثة إيطاليّة في موقع مدينة أريدو بغرب الناصريّة”.
وإزاء ذلك، ما زال هناك ما يجب القيام به لحماية الآثار، بحسب الباحث الآثاريّ ومدرس التاريخ المتقاعد حليم الياسري، الذي تحدّث لـ”المونيتور” عن “تعرّض المواقع الأثريّة في ذي قار على نحو مستمرّ إلى الىسرقات، مقابل اهتمام حكوميّ خجول في تقديم خدمات لتلك المواقع الأثريّة وتحويلها إلى مرافق سياحيّة”، وقال: “يصرّح المسؤولون الحكوميّون عن تخصيص أموال لإعادة تأهيل المناطق الأثريّة، لكنّنا لا نلمس ذلك على أرض الواقع. وإنّ عدم الاكتراث بآثار العراق يعني اختفاءها تدريجيّاً”.
واعتبر أنّ أحد المشاكل الّتي تعاني منها آثار أور تكمن في “إنشاء قاعدة عسكريّة جويّة ضمن حدودها في ثمانينيّات القرن الماضي، هي قاعدة الإمام عليّ الجويّة الّتي بنيت فوق تلال أثريّة، محدثة الضوضاء والتلوّث”.
وفي العراق اليوم، هناك المئات من المواقع الأثريّة التاريخيّة الّتي لم يجر التّنقيب فيها حتّى الآن، وهي معرّضة لتنقيب جائر يقوم به اللّصوص لسرقة كنوزها الّتي لا تقدّر بثمن. ان المطلوب من الحكومة العراقية، الاستفادة من الخبرات الغربية في مجال التنقيب والحفاظ على الاثار، ومخاطبة منظمة يونسكو، طلبا للدعم الفني والخبرات للحفاظ على الاثار والتنقيب عن المئات من المواقع الاثارية المدفونة تحت التراب ، مثلما يتطلب الحفاظ على المواقع التاريخية حمايتها من السراق وتجار الاثار بواسطة إجراءات امنية متطورة ، وقبل كل ذلك تحويل المواقع الاثارية الى مشاريع سياحية وبحثية عبر الاستثمار لتوفير المبالغ اللازمة للحماية والتطوير.