المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي

The Iraqi Civil Society Solidarity Initiative (ICSSI) is dedicated to bringing together Iraqi and international civil societies through concrete actions to build together another Iraq, with peace and Human Rights for all.

ميليشيات وكتل تساند القاضي: الرّشوة جهاراً!

unnamed

يحدثنا التَّاريخ عن وظيفة القضاء وخطورته، ففقهاء كبار عندما رأوا أن القاضي لا يستطيع تجاوز السُّلطان رفضوا التَّكليف؛ وجلدوا لهذا السَّبب. يُنقل عمَّا حصل للإمام أبي حنيفة النُّعمان (ت 150هـ) عن قصة رفضه لوظيفة القضاء، التي كلفه بها آخر ولاة الأمويين على العراق يزيد بن أبي هبيرة(قُتل 132هـ)، يقول الرَّاوي: “كان أبو حنيفة يخرج كلّ يوم، أو قال بين أيّام، فيُضرب ليدخل في القضاء فأبى. ولقد بكى في بعض الأيّام، فلمّا أُطلق قال لي: غمّ والدتي أشدّ عليّ مِن الضَّرب” (البغدادي، تاريخ بغداد).

لو تقرأ كتاب “أخبار القضاة” لمحمد بن خلف المعروف بوكيع (ت 306هـ)، ستجد مِن القصص والمواقف الصَّادقة للقضاة الفقهاء، الذين رفضوا تولي الوظيفة بسبب تدخل السُّلطان، وعدم  قدرتهم على تجاوز الضغط لإعفاء مجرم أو تجريم بريء، وإذا اضطر مَن تولى المهمة تجده لا يقبل استلام راتب عليها. حتى أن بعض الفقهاء لعظمة الوظيفة وصعوبة تحقيق العدالة، وإصرار السُّلطان عليهم، “مثّلوا” دور المجانين.

إن نسيت فلا أنسى القاضي حميد الحكيم (ت 1997)، مِن أهل البصرة، وابن وكيل المرجعية الدِّينية فيها في الخمسينيات، وظل قاضياً حتى نهاية السبعينيات، أن فتحَ باب داره لطارق، وإذا يتفاجأ بأهل متهم في قضية جالبين له هدايا، والقضية يُنظر بها غداً أو بعده، فما كان منه إلا أن مزق ثيابه وأخذ يصرخ بوجوههم لهول الموقف عليه.

قال لي القاضي أبو بيان الحكيم، وعزة النفس ظاهرة عليه، بأن خال صدام حسين نفسه اتصل به على قضية تخص أحد المتهمين مِن أقربائه، والتي على الحكيم النظر بها، ومعلوم ماذا كان خير الله الطلفاح في السبعينيات، فلم يجبه القاضي، ولم يتمكن الطِّلفاح مِن عمل شيء.  نحن هنا لا نتحدث عن محكمة الثَّورة، التي تحول فيها المحامي في أغلب القضايا إلى خصم للمتهم، وهذه سمعتها مِن صديق حُكم عليه خمسة وعشرين عاماً وبالإعدام لزميله، بسبب سياسي، وكنتُ أزوره في سجن أبو غريب، وحكى لي عن موقف المحامين، الذين يكتفون بطلب الرأفة لا أكثر.

إن قاضي قضاتها كان يعيش في تلك الأجواء، كأحد أعضاء محكمة التَّمييز، ولا ننكر عليه تلك الأيام ولا ذلك المركز، لكنَّ مِن الصُّعوبة أن يتحول وبهذه السرعة القياسية مِن طائع في الدكتاتورية إلى معاند في سبيل العدالة في ظل الدِّيمقراطية، ولذلك سهل على رئاسة الوزراء السابقة ترويضه، وانتهت استقلالية القضاء التي كانت أعزَّ مطلب للعراقيين، وهو يتحمل شيئاً مما جلبه رئيس الوزراء السَّابق مِن تدهور على البلاد.

مثلما وقف العراقيون، والغالب منهم مِن فئة الشَّباب يسألون قاضي القضاة عن مصائر قضايا الفساد، ونساء يسألنَه عن مصائر أولادهنَّ في المعتقلات، هرع زعماء ميليشيات وأحزاب تمثل كُتلاً في البرلمان لمساندة القاضي، فعلى ما يبدو أن الرَّجل متورط بقضايا كبرى، أولها حرف القضاء عن مساره في ظل نظام يسمونه بالدِّيمقراطي. وصل زعماء الميليشيات في اليوم الذي أعلنه المتظاهرون “يوم القضاء”، إلا أن العيب الأكبر أن يستقبل قاضي القضاة زعماء ميليشيات هم أول مَن خرق الدُّستور في مادته التاسعة، والتي تقول فقرتها (ب):  “يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج القوات المسلحة”(دستور جمهورية العراق 2005)، وبعدها هرعت “كتلة اتحاد القوى العراقية” التي هي خصم للمتظاهرين أيضاً.

قَبل قاضي القضاة بحماية مَن قامت المظاهرات ضدهم، مِن ميلشييات عبثت بالبلاد، وأضعفت الجيش العراقي، وجعلت الأجنبي قائداً أعلى لها، ولا عُذر بداعش، فكانت تعبث بالعراقيين ومقدراتهم قبل داعش وإرهابها.

يخرج أحد زعماء الكتلة المذكورة ويُصرح أن هذه الزيارة جاء لتثبيت استقلالية القضاء! هكذا يضحكون على النَّاس باسقلالية القضاء، والمتحدث نفسه ما زال اتهامه القضاء بـ”التسييس” ترن في المسامع. ذلك عندما حكمت المحكمة بحذف القائمة العراقية (2010) مِن تشكيل الحكومة، فصرح مسؤول اتحاد القوى العراقية حينها صارخاً بتسييس القضاء!

لم يخجل قاضي قضاتها أن يستقبل كُتلة سياسية متهمة مع بقية الكتل بالفساد، وهو المُعين مِن قِبل بول بريمر (2003) وحتى يومنا هذا يتحدث عن فضلٍ له بجعل ولايته 12 عاماً، وإلا أن بريمر أرادها له مدى الحياة، قياساً على تقاليد القضاء الأمريكي، لكن القضاء الأخير ومدعيه العام ومحكمته اخضعت رئيس الولايات المتحدة للتحقيق، وظهر المدعي العام يحاسبه كأي متهم، والرئيس مطأطأ الرأس ممتثلاً. اعيدوا ما حدث لبيل كلنتون في فترة ولايته الثَّانية.

فهل استدعت المحكمة العراقية والمدعي العام، التي وضعت لحماية القانون والدستور، مَن فَرط بالموصل لصالح داعش، ألم يخجل قاضي القضاة مِن تفعيل قضية ضد محافظ البنك المركزي بطلب مِن رئيس الوزراء بل أمر منه، وإصدار حُكم بالسجن لسبعة سنوات، وعندما يُستبدل رئيس الوزراء يأتيه أمر آخر  وتحكم المحكمة نفسها ببراءة المتهم! إذا أين العطب أليس في رأس القضاء؟ فهل استدعي ذلك القاضي كي يُحاسب على القضية الكيدية، وهي واحدة مِن مئات القضايا، ضد الأبرياء، لشأن سياسي لا أكثر.

إن ظهور قاضي القضاة مع مَن زاره للمساندة ضد الناس، تكفي أن يكون إشارة بأنه لا يقترب مِن قضايا الفساد، ولا مِن قضايا القتل. بهذه الزيارة ازداد تورط القاضي، وظهر أنه لا يحترم القضاء ولا العدالة، لأنه ظهر متعاطفاً علانية مع مَن اضرموا النيران في قلوب النَّاس، وكانت رشوةً نهاراً جهاراً.

لا نطلب مِن قاضي قضاتها أن يكون مثلاً لأولئك النّجوم العدول، من الأولين والمتأخرين، لكن أن يحترم وظيفة العدالة، علانية في الأقل، فما حصل مِن استقبال زعماء الميليشيات، والكتل السياسة ممَن على شخوصهم أكثر مِن علامة استفهام كان بمثابة رشوة يا قاضي القضاة، فالرشوة ليست بالضرورة أن تكون مالاً، بل موقفاً أيضاً.

مِن العيب أن يكون الشَّعب مندداً والمطلوب التحقيق معه، وبتوجيه خارجي معروف، مسانداً.  هذا ولبصير المعرة أبي العلاء (ت 449هـ) ما يُستعشى به: “قد ذُبح الذّراعُ في ساحةٍ/ فيا له مِن دمِ أوداجِ/ يسلكُ محمودٌ وأمثاله/ طريقُ خاقانَ وكنداجِ”(لزوم ما لايلزم). أما محمود وخاقان فمعروفان، وقد لا يعُرف “كنداج”، فيغلب على الظَّن أنه إسحاق بن كنداج (ت 279هـ ) ويُعرف بكنداجيق أيضاً قائد عباسي ساهم بإخماد ثورة الزّنج بالبصرة (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ)، وتولى أمر الموصل بحدود (270هـ).