سليم الوردي، تبكيك بغداد، يبكيك العراق
*اسماعيل داود : في رحيل المفكر العراقي الاستاذ الدكتور سليم الوردي
كان يلفت إنتباهنا لأنه ودون عن أبائنا، يتقرب لأصدقاء ولده زيد، تارة يلعب معنا كرة المنضدة، وأخرى يبادلنا فيها أطراف الحديث آخذاً آرائنا بمواضيع متعددة. في مجتمع يتكبّر فيه البالغون عن الإستماع للشباب وعن فسح مجال لهم للتعبير، مكتفين بأن يرددوا في الظاهر “الشباب جيل المستقبل”!
ذات يوم طلب منا أن نقرأ مسودة روايته “غارات الثور المجنح”، ثم مسودة رواية “سيرة إبراهيم”، طالباً أن نعطيه رأينا فيهما. أي سعادة غمرتني وقتها، أبديت له عن إعجابي بهما وسروري بالثقة التي وضعها فينا. فهذه روايات ما كان لها أن تنشر في زمن الرئيس السابق، في فترة أسماها “فترة العقم السياسي”.
منذ يومها بدأت تربطنا به علاقة قوية، علاقة الأب والمعلم. لم أكن الوحيد من جيلي، فقد كان الفقيد يهتم بكثير من طلابه ومن معارفه ويبدي الرعاية الكبيرة لكل منهم. لكني ومع ذلك كنت أٌمني النفس بأني أحوز على إهتمام ورعاية أكثر منه! كان يصرف من وقته الثمين الكثير ليستمع الى آرائنا الحماسية في ضرورة الثورة على النظام وفي ترفعنا عن من نسميهم “بالإسلاميين”، كان يواجه حماستنا بتفهم كبير ولكن وبنفس الوقت بحكمة عميقة غير مألوفة، وكان من الصعب علينا أن نفهم كل هذا.
أحدثه عن الفرح بالتغيير القادم حتى وإن كان عن طريق الحرب، ويحدثني عن هشاشة حلمي وحلم الملايين من حولي، “إبني، الحروب ما ممكن تكون بديل! إبني التغيير اللي نحتاجة عميق وإنت فرحان بتغيير سطحي ترة، إرجع إقرا علي الوردي!
كان حريصاً على أن يفهم جيلنا أولاً، مشاكل وطبائع مجتمعنا لنكون مؤهلين للحديث عن تغيير حقيقي.
لكننا لم نطق صبراً، كنا نستعرض فنصف أنفسنا :“باليساريين” وكان أعرف منا باليسار، ولكنه حرص على “المسافة” بينه كرجل فكر وبين من حوله من يسار أو يمين!
كم كانت فرحتي عظيمة حين وصفني قائلاً: “أنت نافذتي المهمة” كان يشير الى دوري في إيصال الكتب المستنسخة الممنوعة له خلال فترة الحصار في نهاية تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي. كنت وبسبب قرب منزلنا من منزله القديم في حي الكفاءات المجاور لحي الخضراء في بغداد، أحوز على عطف وإهتمام الأصدقاء المشتركين، فأحصل على الكتب لفترة مضاعفة:
“هذا الكتاب لك إقرأه ثم مرره للدكتور ولك أن تعيده بعد إسبوعين أو ثلاثة”.
كنت أحاول نقاشه بهذه الكتب، وإن غبت عنه لفترة طويلة حرص على أن يسأل :“أين انت؟ ألا تعرف بأنك أنت نافذتي المهمة”. وربما كان يعني أيضا أنه يرى من خلالي جيل كامل من الحالمين! الفرق بيننا وبينه أنه كان يعمل كثيرا دون أن يثرثر وكنا نثرثر أمامه كثيرا دون أن نعمل!
كنا ننتظر مقالاته في جريدة النهضة أو في صفحة آراء في الصباح، ونمني النفس بالمزيد. ماتزال مقالته عن “التقليم الجائر لشجرة المواطنة العراقية” تترائى أمام ناظري لتحكي سيرة العراق السياسية في الماضي القريب في التفريط بمواطنيه بحجة الدين أو القومية أو المذهب أو الإنتماء السياسي، حكاية لم نتعلم منها الكثير، ومازالت وقائعها مستمرة الى يومنا هذا!
بالرغم من سفري وبعدي عن العراق حرص على أن تصل لي مؤلفاته المهمة، لأستزيد منها معرفة وعلم، ولأفرح بعبارة “إلى ولدي العزيز” التي كان يستهل بها إهدائه لي كتبه القيّمة.
تعلمت من كتابه “مقتربات الى المشروع السياسي العراقي” نقد الماضي والحاضر معاً، نقدٌ أساسه أننا نكرر الاخطاء ونهمل إستخلاص الدروس والعبر مما نمر به من أحداث جسام. تعلمت من كتابه ”الإستبداد النفطي” توجيه سهام النقد للإستبداد سعياً لأن نعالج جذوره، وأن لا نكتفي بشتم المستبد وتمني نهايته!
كم أسعدني خبر نشره لرواية “غارات الثور المجنح” ومنها تعلمنا النظر الى مشاكلنا الاجتماعية بعمق، الى جذور مشاكل الفساد وتدني الخدمات. فرحت أيضا بنشره وقبيل وفاته رواية “سيرة إبراهيم” وفيها يدافع عن حقوق الأقليات وعن حق المواطنة محملاً المجتمع قبل الحكام مسؤولية إضطهاد الأقليات والتقليل من شأن الهوية المدنية للمواطن العراقي، فـ”إبراهيم” منا نحبه ونذبحه بذات الوقت!
كم أحبّنا وأحب العراق فنذر لنا عمره وفكره، غير منتظرٍ منا أي شكر، مترفعاً عن كل مجد!
اليوم بفقدانه وبشكل مفاجيء ومبكر أجدني في صدمة، صدمة قد يشاركني فيها الكثير ممن تتلمذوا على يده أو ممن عرفوه وكان لهم اباً ومرشداً، وهم له مريدين.
أتعرفون سبب هذه الصدمة، إنها وبصراحة حاجتنا له، تصورنا أن بمقدورنا أن نعود اليه لنلوذ بحكمته وفكره، شاكين إحباطنا المتوالي … مرة بعد أخرى!
كنا بحاجة له وكان قد تعب منا، ففضل المغادرة!