لا تخلطوا.. الطَّريقة النَّقشبنديَّة صوفيَّة ليست بعثيَّةً
قلم : د. رشيد الخيّون
ربَّما لا يميز سوى القِلة مِن السَّامعين بجيش رجال الطَّريقة النَّقشبنديَّة بينه وبين الطَّريقة النَّقشبنديَّة الصّوفيَّة المشهورة، والتي تنتشر حيث ينتشر الإسلام، عابرة البلدان والقوميات والقبائل، لا تؤمن بالسِّياسة ولا الحزبية، ولا بحمل السِّلاح، إلا شخصيات فرضت عليها المواقف حمل السِّلاح خلال الثَّورات في الوديان والجبال كبعض مَن عرفوا أنفسهم بالسادات النَّقشبنديَّة.
سألت أحد رجالاتها في تكيته، وهو شيخها بمنطقة “الطَّويلة”، التَّابعة لمحافظة السُّليمانية، في أقصى شمال شرق العِراق، وهو يتحدث عمَّا فعلته الجماعات السَّلفية المتطرفة بأضرحتهم: كيف تحمون الآن أماكنكم المقدسة، وأنت تقول لا نؤمن بحمل السِّلاح؟ قال: عندما غزتنا تلك الجماعات، الذين يسمون أنفسهم بـ”أنصار السُّنة”، لم يكن لدينا سلاح ندافع به عن أنفسنا ومراقدنا، لأن شيوخنا الكبار لا يسمحون بذلك، وبعد جدل طويل سمحوا لنَّا بشرط الحماية فقط.
بالفعل عندما زرت أماكنهم لم أجد مسلحاً واقفاً عند بواباتها، وكانت مفتوحة، بعد أن عُبث بعظام موتاهم، وأُخذت ودفنت في أماكن أُخر، وبعد طرد تلك الجماعة استطاعوا العثور عليها، فأعادوها إلى قبورها، وأن ما لديهم مِن الذَّخائر النَّفيسة روحيَّاً، مِن ناحية قدسيتها، حملوها لحفظها بأربيل، ويأتون بها في المناسبات الدِّينية التي تتطلب وجودها.
معنى ذلك أن الطَّريقة النَّقشبندية، كغيرها مِن الطُّرق الصُّوفية، لا تؤمن بالعنف، وليس لها في العمل السِّياسي الحزبي أو العمل العام كطريقة. جاء اسمها نسبة إلى لقب مؤسسها الشَّيخ بهاء الدين محمد بن محمد نقشبند (ت 791 هـ)، المولود ببخارى، وقيل كان يُلقب بمحمد البخاري.
قرأت في بعض كتبهم أن النسبة تكون نقشبند لا نقشبندي، كي يميز في أصل اللقب. فمِن المعلوم أن لقب النَّقشبندي نسبة إلى حِرفة النَّقش في الحجر أو الخشب أو القِماش، أو أي شيء آخر تُنقش عليه الصُّور أو الحروف، فتداخلت الألقاب فصار الصباغ مثلاً نقشبندي أيضاً. أما نقشبند فهو لقب للشيخ بهاء الدين، الذي لم يعمل طوال حياته في حِرفة سوى النَّقش في القلوب، فعُرف “نقاش القلوب، وقد رسخ نقش الله في قلبه وقلوب مريديه، ونهجه كما هو واضح، عمل للمذكور ليكون في قلبه”(عن كتاب ماهي الطَّريقة النقشبندية). فهو النقشبند وليس النقشبندي، الذي صار لقباً لمريديه. حتى قال شاعرهم: “يا رفيقاً في طريق النَّقشبند/ انقش ذِكر الحق في قلبك بجد”.
حسب كتبهم، أنها طريقة قديمة تتصل بالحضرة النَّبويَّة، وأنها قبل نقشبند كان مرَّ اسمها بعدة مراحل: الصِّديقية نسبة للخليفة الأول أبي بكر الصِّدِّيق، والطَّيفورية نسبة لأبي يزيد البسطامي، والخواجكانيَّة نسبة إلى الشَّيخ الغجدواني، والنَّقشبنديَّة نسبة إلى بهاء الدِّين البخاري أو السَّمرقندي نقشبند. يبدو أنها لم تكن موجودة بالعراق باسم النَّقشبنديَّة حتى سافر الشَّيخ ضياء الدِّين خالد الشَّهرزوري المعروف بمولانا خالد النَّقشبندي (ت 1826) إلى الهند والحجازـ وبعد عودته نشر الطَّريقة بالاسم هذا ببغداد ثم بثها بالسليمانية، وهو مولود بأحد توابعها بلدة قره داغ (انظر: السَّادات النقشبندية تاريخ ومواقف ودروس وعبر).
أما “جيش رجال الطريقة النقشبندية” فهي جماعة مسلحة، حسب ما نقرأ في بياناتها ونسمع من أهازيجها أنها غلب عليها تنظيم حزب البعث، في أحد فروعه، وواضح أنها تأسست يوم إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (30 كانون الأول/ ديمسبر 2006)، وهذا ما جاء في بيانها التأسيسي والمؤرخ في التاريخ نفسه. كذلك يُشير شعار هذه الجماعة إلى: علم العراق الذي نقش عليه صدام حسين عبارة الله أكبر بين النُّجوم الثلاثة خافقاً على خارطة الوطن العربي، مثلما كان البعث يقدمها، بينما الطَّريقة النَّقشبندية للعلم الإسلامي بأسره.
ليس لديَّ معلومات مؤكدة، أو موثقة، بأن عزة الدُّوري نائب صدام حسين هو وراء تأسيس وقيادة هذه الجماعة، فما يُشاع أنه كان وراء ظهورها بسبب صلته بالصوفية النقشبندية، وهناك مَن يقول كانت لديه صلة بالطريقة القادرية العلية الكسنزانية. ولما ألتقيت بمشايخ مِن الطريقتين بالسليمانية، العام الماضي، ومنهم مَن يتحدر مِن محافظة الأنبار، نفوا تلك الصلة، وقال لي شيخ كسنزاني متقدم في الطَّريقة: إن عزة الدوري كان يقول، عندما يُطرح مثل هذا السؤال: “شيخي عفلق وطريقتي بعثية”.
تقول النقشبندية، وكذلك الطُرق الأُخر، بأنها متصلة بالنُّبوة، بعضها عن طريق علي بن أبي طالب مباشرة، كالقادرية العلية، وأخرى عن طريق أبي بكر الصديق مباشرة كالنقشبندية، ثم تتصل الأخيرة بعلي بن أبي طالب عن طريق جعفر الصادق (ت 148 هـ) وصلة القرابة بينه وبين القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّديق، وهو جد الصَّادق لأُمه أم فروة فاطمة. تستمر الصِّلة الصُّوفية بذرية علي بن أبي طالب حتى علي الرضا(ت 203 هـ)، ومنه تعبر الصلة إلى معروف الكرخي (ت 200 هـ) وإلى بقية المتَّصوفة المعروفين.
لا تميل الطَّريقة النَّقشبندية، التي لها وجود كثيف داخل العراق، وعلى وجه الخصوص بإقليم كردستان، إلى ممارسة الدروشة الصُّوفية بإيلام البدن، مِن أكل الزجاج، أو إدخال الأسياخ في الجسم، وهي حقيقة وليست لعبة سحريَّة مثلما يظن البعض، يُهيئ لها المريد الممارس نفسياً. إذا كانت المذاهب الفقهية تحدد فروع الدِّين وكيفية العبادة، فالطُّرق الصُّوفية تهتم بتعميق الإيمان والوصل بالذِّكر إلى ذروته. ليس في قاموسها أي عمل سياسي أو مشروع سُلطة، وبينها وبين الإسلام السِّياسي بوناً شاسعاً، حتى أن وجود كثافة التَّصوف تحسر مِن دور الأحزاب الدِّينية، ولا يُرضى الشَّيخ الصُّوفي لمريده العمل في السِّياسة.
إذا لم أكن مخطئاً فإن أول مَن استخدم التَّصوف لإطفاء الحركات السِّياسية، في زمانه، هو الوزير السَّلجوقي نِظام المُلك (اغتيل 485 هـ)، وذلك عندما اشتد أمر النَّزاريين، الذين عُرفوا خطأً بالحشاشين، ولم يسلم الوزير نفسه مِن خناجرهم، وكذلك لمواجهة الدَّولة الفاطمية ذات التوجه الإسماعيلي، والنَّزاريون وهم إسماعيليون كانوا ضدها أيضاً لخلاف سياسي على ولايَّة العهد، وقد تصيدوا مما تصيدوا في عمليات الاغتيال بعض حكامها بمصر.
عندما تسمع أناشيد جيش رجال الطَّريقة النَّقشبندية تتأكد أنها طريقة بعثية لا صوفية، فكل أناشيد حزب البعث في أيام الحروب تذاع عبر موقعها، وهي جعلت أمامها مهمة الانتقام لإعدام صدام حسين، وتأسست -مثلما تقدم- في يوم اعدامه، وكأنه أحد شيوخ الطَّريقة.
لكنَّ ما هو سرّ أن يختار البعثيون الطَّريقة النَّقشبنيدية لا غيرها اسماً لهذه الجماعة السياسية والمسلحة؟ بينما لم يصدر بياناً أو فتوى مِن شيوخ الطَّريقة المعتبرين لدعم هذه الجماعة، مع أن موقع “جيش رجال الطريقة النقشبندية” يتحدث في قسم العقيدة عن أُصول التَّصوف واعتقاد الطَّريقة، حسب ما ورد عن “الهيئة الشَّرعية لجيش رجال الطَّريَّقة النَّقشبنديَّة”. لكنهم يقولون :”لسنا طُلاب دنيا”، فإذا كان حزب يجاهد مِن أجل السلطة وتأسس لهذه الغاية لا يطلب دنيا فمَن طالب الدَّنيا يا تُرى؟
على أية حال، لابد مِن التَّمييز بين الطَّريقة الصُّوفية، وهي تؤمن بالطَّريق إلى الله، عبر الذكر ومجاهدة النَّفس وطاعة المريد للمرشد بهذا الأمر، وبين جيش رجال الطَّريقة النَّقشبندية، المبنية فكرته على الانتقام والطَّريق إلى السُّلطة. مثلما أقولها صراحة أن اعدام صدام حسين على قضية الدُّجيل ألهبت الطَّائفية، وكان انتقاماً لا قصاصاً. الجهلاء وحدهم يسعدون بطاحونة الانتقامات ودولابها الدَّموي. سيقولون ألم يكن صدام مذنباً؟ نقول: نعم كان مذنباً، لكنَّ هناك عشرات القضايا التي يمكن محاكمته عليها بعد ترتيب الأوضاع وتمهيد الاستقرار، وأخذ وضع البلاد الاجتماعي بنظر الاعتبار، فقد أظهرتم في سلوككم الطَّائفي صداماً بريئاً من الطَّائفية.
لم يبق الأمر على حزب البعث في توظيف الدِّين مِن أجل الدُّنيا فها هي الأحزاب الدِّينية، وهي في السُّلطة، أظهرت ميلها إلى الدَّنيا بكامل قواها. للأسف أن الواقع المعاش مثلما قال الشّيخ خالد النَّقشبندي في زمانه محذراً أتباعه مِن: “أخذ الدُّنيا بالدِّين”، فخزائن العراق ينهبها الأشخاص والجماعات باسم الدِّين، وجماعات تقتل على الهوية بالدِّين نفسه. ولنَّا القول في شيوخ الجماعتين: “صاح الغُراب وصاح الشَّيخ فالتبست/ سوالكُ الأمرِ أيٌ منهما نعبا”(الجواهري، قف بالمعرة 1944).
أخيراً، يبقى عزة الدُّوري لُغزاً مِن الألغاز، بين موته وتحمله مسؤولية أمانة حزب البعث العامة وقيادة جيش رجال النَّقشبنديَّة؟!