الثورة التركية الثانية لـ “كمال” أردوغان
سونر چاغاپتاي – معهد واشنطن
يثق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تمام الثقة بأنّه سيصبح الزعيم التركي الذي يخدم أطول فترة في التاريخ المعاصر متخطّياً بذلك حتّى مصطفى كمال أتاتورك. فمؤسّس تركيا الحديثة كان قد حكم البلاد لمدة ١٥ سنة بين عامي 1923 و 1938. أما الرئيس أردوغان فسيكون قد ترأسّ تركيا بحلول نهاية ولايته الحالية لفترة ١٧ عاماً، حيث شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2002 و 2014 ورئيس الجمهورية حتى عام 2019.
وغالباً ما يوصف أردوغان بأنّه محيي السلطنة العثمانية. ويشير منتقدوه إلى أنّه يريد الإطاحة بإرث وسياسات أتاتورك الذي أسّس تركيا كجمهورية حديثة علمانية في عشرينيّات القرن الماضي، وإعادة السلطنة العثمانية مكانتها. إلّا أنّ برنامج أردوغان يطمح إلى أبعد من ذلك: فهو يريد أن يخلّص تركيا ليس من إرث أتاتورك فحسب، بل من السلطنة العثمانية الأخيرة المتأثرة بالثقافة الغربية أيضاً.
وحيث غالباً ما كان يوصف بقائد ثوري مستقلّ، يُعدّ أتاتورك نتاج السلطنة العثمانية بالفعل. فقد تعلّم في مدارس عثمانية وخدم في الجيش العثماني.
إنّ التمحور العثماني نحو الغرب والذي أنتج أتاتورك وآخرين متأثّرين بالغرب ومتشابهي الأفكار قد أتوا في أعقاب فترة أليمة من البحث عن الذات. فقد توقف تقدم العثمانيين، القوّة المسيطرة في أوروبا في القرن السادس عشر، في ظل القوّة الصاعدة للقوى المسيحية في أوائل القرن السابع عشر، والتي صدّت في البداية تقدّم العثمانيين نحو أوروبا ومن ثم كبّدوهم خسارة كبرى على مشارف فيينا عام ١٦٨٣.
وكانت ردة فعل العثمانيين الأولى على الخسارة المفاجئة أمام تفوّق المسيحيين الأوروبيين هي الرفض المتجسّد بالأصولية الدينية، وفي منتصف القرن السابع عشر، عصف تيّار ديني يُدعى حركة “كاديزاديلي”، غير المعروفة كثيراً، بأنحاء السلطنة. وقد تمّ تعزيز الحركة التي قادها القاضي المسلم كاديزادي محمد على يد تلامذتها الشباب والملتزمين الذين عُرفوا بالطالبان (تعني الكلمة ببساطة “تلامذة” باللغتَين العربية والتركية العثمانية).
وكحالة تقليدية للأصولية الدينية، أكّدت حركة “طالبان كاديزاديلي” أنّ عجز السلطنة عن الحفاظ على هيمنة “الإسلام الحقيقي” في سياساتها قد قاد إلى انهيارها. فقد ادّعى “طالبان كاديزاديلي” أنّه من خلال التخلّي عن التسامح والانفتاح الذهني، يستطيع العثمانيون “تخليص الإسلام من التراكمات”- وهي الوصفة الدائمة للـ “إصلاح” وسط حركات إسلامية عديدة منذ ذلك الحين، بما فيها الوهابيين والجهاديين – ويمكن إعادة السلطنة إلى مجدها السابق.
لذلك، حاول العثمانيون تجربة الأصولية. فقاموا بفرض أعباء مضنية على اليهود والمسيحيين، مستغنين بشكل مؤقت عن الانفتاح الديني لمنظمتهم الاجتماعية. فمنعوا الكحول والتبغ، واضطهدوا المسلمين غير المتديّنين كالصوفيين. غير أنّ هذه السياسات الدينية – أداة الإسلاميين الأزلية – قد فشلت في إعادة القوّة إلى السلطنة العثمانية. وقامت القوى الغربية وروسيا بسحق العثمانيين في حروب القرن الثامن عشر بصورة أشد مما فعلت قبل بروز حركة “كاديزاديلي”. وبذلك أدرك العثمانيون ببطء وبشكل مؤلم أنّ الدين لا يضمن العظمة السياسية.
وقد دفعت سلسلة الخسارات المذلّة إلى إطلاق عملية للتقييم الذاتي في القرن الثامن عشر. فقرّر السلاطنة العثمانيون تغريب دولتهم في مسعى للحاق بركب القوى الصاعدة في أوروبا. وفي أواخر القرن الثامن عشر، بادر السلطان سليم الثالث، المعاصر لنابليون، هذه الجهود من خلال تغريب الجيش العثماني، وأكمل خلفائه في القرن التاسع عشر إعادة هيكلة بيروقراطية السلطنة والنظام التعليمي، فاتحين بذلك المجال أمام المبادئ التقدّمية مثل تعليم المرأة، والانضمام إلى وفاق الأمم الأوروبية، والمحاكم العلمانية. وقد أصبحت المسائل الدينية تحت سيطرة الدولة بشكل متزايد.
لقد حدّدت هذه الإصلاحات البيئة التي أنتجت أب تركيا الأوروبية الحديثة عام ١٩٢٣، كمال أتاتورك، الذي كان عسكرياً في الجيش العثماني ومتحدّراً من عائلة متواضعة، وتدرّب في مدارس السلطنة التي اعتمدت منهجاً غربياً علمانياً.
وعندما انهارت السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، احتل الحلفاء هذه الامبراطورية. وفي البداية، قاد أتاتورك حملة ناجحة بين عامي ١٩٢٠ و١٩٢٢ لتحرير تركيا، ثمّ دفع نحو إجراء إصلاحات عميقة من أجل علمنة البلاد بصورة تامة. فأطاح بما تبقّى من الشريعة في نظام المحاكم العثمانية، وأنشأ نظاماً تعليمياً عاماً علمانياً بالكامل، وأعلن المساواة التامّة بين المرأة والرجل. وخلافاً للمقاربة العثمانية، أبعد الدين ليقتصر على الحياة الخاصة. وفي السياسة الخارجية، تبنّى أتاتورك فكرة طبيعة تركيا الأوروبية حتّى بقدر أكبر من الانفتاح من العثمانيين ممحوراً البلاد بعيداً عن الشرق الأوسط.
وقد دام ذلك حتّى الماضي القريب. فبعد تسلّمه السلطة عام ٢٠٠٢، سعى أردوغان إلى عكس إرث الفكر الكمالي. وادّعت نخبة «حزب العدالة والتنمية» أنّ التزام الفكر الكمالي بالفصل الصارم بين الدين والدولة لم يكن طبيعياً واعتبرت أنّ الإظهار العام للتديّن، مثل ارتداء الحجاب من قبل موظفات الحكومة، مقبولاً بالكامل. أمّا في مجال السياسة الخارجية، فقد ركّزت النخبة على إعادة الانخراط في الشرق الأوسط وترسيخ مقام تركيا كقوّة سنّية إقليمية.
إلّا أنّ أردوغان لم يتوقّف عند هذا الحدّ. إذ يبدو أنّه مصمّم على اقتلاع الإرث العثماني من التغريب وإعادة الإسلام إلى دور مركزي في السياسة، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة حركة “كاديزاديلي” المعاندة. وبتلميحه إلى الإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر، قال أردوغان مؤخّراً: “لمدة ٢٠٠ عام، حاولوا سلخنا عن تاريخنا وعن أسلافنا. حاولوا دفعنا إلى التبرؤ من مطالبنا”.
وتوحي سياسات أردوغان الأخيرة أنّ هذا ليس مجرّد خطاب. ففي كانون الأوّل/ ديسمبر ٢٠١٤، أصدر “مجلس التعليم العالي” في تركيا، وهو مؤسسة تديرها الحكومة، توصية باعتماد سياسة تقترح إعطاء الدروس الإلزامية حول الإسلام في المدارس العامّة إلى جميع التلامذة ابتداءً من سنّ السادسة.
إنّ أسس التعليم العلماني في تركيا في خطر محدق. فعدد مدارس “إمام خطيب”- وهي مدارس مموّلة من القطاع العام وتتّبع منهجاً دينياً – قد تضاعف بكثير، من ٤٩٣ عام ٢٠١٠ إلى ١٠١٧ عام ٢٠١٥. ومنذ عام ٢٠١٤، يلتحق تلقائياً التلامذة الذين يعجزون عن الدخول إلى المدارس الثانوية رفيعة المستوى والقليلة في البلاد، بمدارس “إمام خطيب”. وفي المقابل، فإنّ التعليم العلماني ذو المستوى الجيّد يصبح بشكل متزايد بعيداً عن متناول الطلّاب الأتراك المتوسطي الذكاء. ولم يكن من الممكن بروز أتاتورك في النظام المدرسي التركي في أيامنا هذه.
وقد اتّخذ أردوغان أيضاً مواقف مقلقة بشأن المساواة بين الجنسين. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٤، ادّعى قائلاً: “لا يمكن مساواة المرأة بالرجل. فهذا مخالف للخلق … إنّه مخالف للطبيعة”. هناك فسحة ضيّقة للمرأة في السياسة في تركيا تحت حكم أردوغان. ويتناقض ذلك كلّياً مع تركيا في ظل حكم أتاتورك حيث كان ٣٦ ٪ من الأكاديميين و٢٨ ٪ من القضاة والمدّعين العامين من النساء، وفقاً لتقرير صادر عام ٢٠٠٠ عن TUSIAD، وهو مركز أبحاث تركي حول شؤون الأعمال مقرّه في اسطنبول، فضلاً عن إحصاءات حكومية.
وعلى الرغم من استمرار تمتع تركيا بدستور علماني، إلا أن الحكومة دأبت على إخضاع حريّة التعبير للدين. وفي هذا الصدد، حُكم على عازف البيانو التركي الشهير فازيل ساي بالسجن لمدة عشرة أشهر في عام 2013 بتهمة “تشويه الإسلام”. وكانت جريمته إعادة تغريد سطور مسيئة للتشدّد الديني.
ولسوء الحظ تشهد حريّات التعبير والإعلام تراجعاً كبيراً في تركيا تحت حكم أردوغان. فلدى تسلّم «حزب العدالة والتنمية» السلطة في عام 2002، جاءت تركيا في المرتبة الـ 99 في مجال حرّية الإعلام ضمن 139 دولة تمّ استطلاعها من قبل منظمة “مراسلون بلا حدود”. وفي عام 2015، احتلّت البلاد المرتبة 149 من أصل 180 بلداً شملتهم الدراسة من قبل المنظمة نفسها.
وأخيراً، جعل أردوغان من الدين محوراً للسياسة الخارجية التركية. ويظهر ذلك في علاقته بمروحة من الجماعات الإسلامية بما فيها حركة «حماس»، والفصائل السورية المتمرّدة المحافظة، و «الإخوان المسلمين» في مصر وليبيا. ونتيجة لذلك، تواجه تركيا تهديدات جديدة من التطرّف الإسلامي كما يتضح من الهجمات الأخيرة التي شنها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في البلاد، بما في ذلك قيام مفجّر إنتحاري من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» باستهداف مدينة اسطنبول القديمة، مركز السلاطين العثمانيين، في 12 كانون الثاني/ يناير. ومن خلال جعل الإسلام المبدأ المرشد للسياسات التركية، يمكن في القريب العاجل أن يجد أردوغان نفسه في منافسة مع العناصر الأصولية والعنيفة حول تعريف “الإسلام الحقيقي”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، ما الذي سيحلّ بـ “تركيا أتاتورك” في ظلّ حكم أردوغان؟ إنّ المقارنة الأقرب، على الرغم من افتقارها إلى الكمال، هي إرث ماو تسي تونغ في الصين. فكل شيء في المجتمع الصيني الرأسمالي المتأصّل اليوم يصرخ “أَكره ماو”! إلّا أنّ صُور القائد السابق لا تزال معلّقة في جميع أنحاء البلاد. وفي الواقع، يستغل القادة الصينيين صورته كمحرّر البلاد ومصدر شرعيّة، إلّا أنّهم يجرّدون البلاد من إرثه الأساسي.
ويسعى أردوغان إلى شيء من هذا القبيل. فتركيا بعيدة اليوم كل البعد عن كونها علمانية في السياسة والتعليم، وعن أوروبية الفكر في سياستها الخارجية، وعن احترامها للمساواة بين الجنسين في القضايا الداخلية. ولو كان بإمكان السلاطين العثمانيين وأتاتورك زيارة “تركيا أردوغان” اليوم لكانوا قد أصيبوا بصدمة.
وفي حين سيستمرّ أردوغان بالابتعاد عن إرث أتاتورك – الذي لا يزال شخصيّة تَحرُّر موقّرة – وعن السلاطين العثمانيين الذين كانوا يميلون إلى الثقافة الغربية، ستبقى تماثيلهم تزيّن ساحات البلدات، الأمر الذي سيؤمّن للحكومة الحالية واجهة من الشرعيّة.