مبادرات شبابية تمحو الشعارات الطائفية في الفلوجة
ما أن استعاد السكان المحليون مدينتهم وبدأت الحياة بالمضي نحو الاستقرار، شرع عدد من الفنانين والمتطوعين في تشكيل مبادرة تسعى الى إزالة كافة الشعارات والعبارات الطائفية التي خلفها داعش، وبعض من كان لهم ميول طائفية ضمن القوات الأمنية والتشكيلات المساندة لها، التي ساهمت في تحرير مدينة الفلوجة (60 كلم) غرب العاصمة بغداد.
هيثم الجميلي “الخطاط” هكذا يلقب نفسه بطل قصتنا وهو احد السكان المحليين لمدينة الفلوجة، والذي يعمل مدرسا في معهد الفنون الجميلة، وصاحب هذه المبادرة التي أُطلق عليها اسم “حملة بجهودنا نتقدم”، قرر أن يستخدم ألوانه وأدواته وإمكانياته الذاتية، في تغيير تلك العبارات السود الى لوحات وشعارات توعوية بألوان زاهية.
منذ نيسان 2017، وهو يجول مع أربعة شباب من طلبته في الأحياء والأزقة، مستهدفين جدران المدارس التي تحمل شعارات وعبارات، لا يمكن لها أن تمثل مرحلة جديدة من مراحل الاستقرار والسلام.
هيثم الجميلي، تحدث لــ”نقاش” عندما التقينا به وهو يعمل بعد ساعات الإفطار في طلاء ما تبقى من جسر تقاطع الأردن وسط الفلوجة، وقال “كنت أتمنى أن ارسم اللوحات واخط الشعارات على احد معالم المدينة، ويبدو أن أمنيتي قد تحققت أخيرا، إلا أنني لم أكن اعلم أن العمل سيكون مكلفا الى هذه الدرجة، لاسيما وأننا نعمل دون دعم أو معونة من أي جهة كانت”.
ويقول أيضا “منذ شهرين ونحن نعمل ليل نهار لإزالة الشعارات عن المدارس بصورة رئيسية، والتي يصل عددها الى أكثر من (500) مدرسة، فضلا عن الجسور والأماكن العامة داخل المدينة وعلى الرغم من الديون المترتبة علي أنفقت أكثر من خمسة ملايين دينار، قبل أن تتكفل مديرية بلدية الفلوجة بتوفير الأصباغ فقط، أما الجهود والأدوات فهي مازالت على نفقتي الخاصة”.
ويضيف الجميلي “عملية إزالة هذه الشعارات بحاجة الى أكثر من خمسة وعشرين مليون دينار كحد أدنى لتوفير الأصباغ فقط، أما الجهود البدنية والأدوات والمعدات فنحن تكفلنا بها، ولا ننكر أننا بحاجة الى دعم مادي يساهم في انجاز رسالتنا التي نسعى الى بثها الى كل العالم، باعتبار أن مدينة الفلوجة محط اهتمام المجتمعين المحلي والدولي”.
محمد علي احد المشاركين في “حملة بجهودنا نتقدم” وهو احد طلاب معهد الفنون الجميلة، شارك مع عدد من زملائه في العمل التطوعي والذي وصفه بالفرصة التي لا تعوض، كونها تصقل موهبته في فن الرسم والخط، فضلا عن أنه عمل يفتخر به بين زملائه وأقرانه.
يقول لـ”نقاش” حول نشاطه “لم أكن اعلم أن العمل التطوعي سيكسبني علاقات طيبة ومحترمة داخل المدينة بهذه السرعة، منذ أن عملنا وأنا اشعر أنني إنسان ايجابي يعمل من اجل مدينته دون التطلع الى مكاسب مادية، فعبارات الثناء والمدح التي نتلقاها مكافأة لم أكن اطمح إليها أو احلم بها”.
يضيف الجميلي المشرف على هذه الحملة أيضاً “كنت ارجوا أن أضع بصمة جميلة داخل مدينتي ولم أكن اعلم أن المدينة ستكافئني بهذا القدر من المحبة والعرفان، أنا اليوم لم اعد كما كنت في السابق، فلا استطيع أن أتجول داخل المدينة دون الوقوف مع بعض المعجبين ممن يطالبونني بالتقاط صور سيلفي وكأنني احد المشاهير أو أبطال كرة القدم العالمية”.
يرى السكان المحليون ان تلك الألوان ستمحو كل رسائل الإرهاب والطائفية، وتحث الجميع على تبني الدور الايجابي، وعدم الوقوف عند أهداف تلك الشعارات التي لا تسعى الى وحدة ابناء البلد الواحد.
جمعة الحلبوسي احد السكان المحليين لمدينة الفلوجة والذي يقطن حي نزال وسط المدينة يتجول مرارا من خلال عمله كسائق تكسي وهو يصف تلك الشعارات بالاستفزازية، والتي دائما ما تعيد الى الأذهان حقبة مريرة أثرت بشكل سلبي على المدينة وسكانها.
الحلبوسي تحدث لـ”نقاش” وقال “عندما أشاهد هؤلاء الشباب وهم يرسمون لوحات جميلة بالوان زاهية ويمحون تلك العبارات والشعارات، تغمرني الفرحة كثيرا لاسيما وأنا أشاهد عددا من الشباب اليافعين وهم يلتقطون صورا تذكارية مع تلك اللوحات، التي أصبحت مشاهد جميلة تحث على العمل والمواطنة، من خلال الرسومات المعبرة والشعارات الوطنية”.
ويضيف الحلبوسي “نحن مدينون لهؤلاء الشباب الذي تكفلوا بإزالة ماكتبه الأشرار، وصدروا لنا صورة جديدة تنير طرقاتنا، لأننا لم نعد نحتمل أي منغصات، فالحياة التي نعيشها لا تحتمل الألوان السوداء أرهقتنا الحروب ونتائجها ولا نريد سوى العيش بسلام في بيئة مستقرة تبث شعارات السلام والطمأنينة”.
حسب القائمين على تلك المبادرة، فأنها لم تكلفهم سوى جهود بدنية ومبلغ قد لا يصل الى (15) مليون دينار، إلا ان نتائج هذه الحملة بدت واضحة من خلال تفاعل السكان المحليين مع المشاركين في تلك المبادرة، بل راح البعض منهم يتخذ من تلك الصور الجديدة صورا خاصة في صفحاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.
محمد الدليمي، أستاذ علم النفس في جامعة الانبار، يشير الى ان “هذه الجهود وان كانت بسيطة إلا أنها تحدث تأثيرا فعالا داخل المجتمع، لاسيما أننا نتعامل مع عائلات عائدة للتو من مرحلة نزوح لم تجد في مدينتها سوى الخراب والدمار، وهذه الرسائل تأتي في وقت مثالي تسهم في معالجة الآثار النفسية التي لحقت بالمتضررين من أبناء المدينة، وبالتحديد شريحة الطلبة الذين أصبحت مدارسهم بمثابة جدار حر مستباح، من قبل الإرهابيين والطائفيين”.
يهدف القائمون على هذه الحملة ان يكونوا سفراء سلام وينفذوا مشاريع مشابهة في محافظات أخرى، لاسيما بعد ان وردتهم مطالبات عدة من أبناء المحافظات الجنوبية الذين تفاعلوا مع المبادرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، واثنوا كثيرا على تلك الجهود وعدوها الصورة الحقيقية لأبناء مدينة الفلوجة التي حاول التنظيم المتشدد طمسها في الفترة الماضية.