التأثيرات البيئية المتوقعة لسد اليسو على حوض نهر دجلة داخل الاراضي العراقية
* كمهندس أعترف أن الهندسة التقليدية التي كنا قد تعلمناها منذ عقود من الزمن والتي لازالت تدرس في جامعاتنا قد أحدثت الكثير من المشاكل المعقدة في حياة الإنسان ومنها السدود الكبيرة. آن الأوان للتحول إلى مباديء الهندسة المستدامة التي فيها الحلول الناجحة لكثير من مشاكل الحضارة الحالية.
* أعدت هذه الدراسة عام 2005 ، أي قبل عام واحد من البدء بإنشاء سد اليسو.
خالد محمد شاهين
الخلاصة
من ثابت الحقائق لدينا في علم وهندسة البيئة أن الله تعالى قد خلق الكون على نظام دقيق معجز. والأرض باعتبارها جزءاً من هذا الكون الفسيح لا تخرج عن نواميس النظام الرائع هذا. فكل مافي أرضنا التي عليها نحيا من انظمة فيزياوية وكيمياوية وبيولوجية تجري على وتيرة من الدقة والتناغم حيرت الباب ذوي الالباب. ثم جاء الانسان المعاصر ليعبث بهذا التناغم البديع فيخلف حالات من الفوضى عجز هو نفسه وبكل ما توصل اليه من وسائل التكنولوجيا الحديثة أن يعيد الامور إلى نصابها المتوازن.
وموارد المياه السطحية واحدة من الأنظمة الطبيعية التي عبثت بها يد الانسان بهدف تطويعها لرغباته، فأفاد بهذا التدخل أقواما وأضر آخرين. وتأتي مشاريع إقامة السدود لتشكل واحدة من وسائل الإخلال بتوازن موارد المياه. وبقدر ما تحقق هذه السدود من منافع إلا أنها بالمقابل تخلف أضرارا جسيمة قد تفوق أحيانا منافعها.
وتتعدد الآثار السلبية لمشاريع حصر المياه عادةً وتتشعب، فمن تأثيرها على مورفولوجية الانهار والدلتا الساحلية، إلى تاثيرها على هيدرولوجية المنطقة وغطائها النباتي، إلى التغير الكبير في توزيع الحمل الرسوبي، إلى تحفيز ظاهرة الاثراء الغذائي، إلى التغير في النظام الحراري للنهر، إلى ثم إلى ثم إلى…
وسنحاول في الصفحات القليلة التالية التعرض وبايجاز لبعض من هذه التأثيرات ألا وهي تأثير السدود على سلاسل الأحياء المائية والثروة السمكية والإضرار بنوعية المياه ومنها على وجه التحديد درجة حرارتها ومستوى الاوكسجين المذاب فيها وما لهذين العاملين من تأثير كبير على مجموعة الاحياء المائية في الانهار، كذلك سنتطرق الى تأثير السدود على قدرة المياه الخارجة منها على هضم ما يلقي الانسان اليها من اطنان الملوثات، اضافة الى موضوع حرمان الأراضي الزراعية من الخصوبة الطبيعية وما يتبع ذلك من حاجة للتعويض عن هذه الخصوبة بالأسمدة غير العضوية التي لاتخلو من سموم.
التأثيرات البيئية المتوقعة لسد اليسو على حوض نهر دجلة داخل الاراضي العراقية
لقد اصبح من الثابت أن الموقع الجغرافي للسدود وكذلك النظام الطبيعي للأنهار يمكن أن يوفرا الأساس الذي من خلاله يمكن تخمين الآثار المترتبة للسدود على الانظمة البيئية خلف وأمام السد. ومع هذا يبقى التنبؤ بجميع هذه التأثيرات التي تتبع انشاء السد محدوداً ومقتصراً على تخمين نوع التغيرات وليس كمها. إلى جانب ذلك فإن عملية التنبؤ بالأضرار تصبح أكثر تشابكا وتعقيدا حين مرور الأنهار خلال مناطق مختلفة جيولوجيا ومناخيا، وكذلك عند انشاء مجموعة من السدود المتعاقبة على حوض نهر واحد الأمر الذي يخلق حالة من التأثيرات التراكمية على نوعية المياه. علما ان المعرفة المتوفرة في هذا الخصوص لا تكفي مطلقا لتوفير قواعد ثابتة لتوقعات دقيقة ومحددة. والأمور الواردة ادناه تمثل جانبا من التأثيرات المحتملة لسد اليسو التركي على حوض نهر دجلة في العراق :
- قطع الإتصال بين اعالي النهر وأجزاءه السفلى، والذي يشكل عائقا امام هجرة الأسماك المعتادة على التكاثر في أعالي النهر. وعلى الرغم من أن كمية المياه الخارجة من السد عادة ما تكون كافية لحياة الأسماك غير المهاجرة، إلاً أنها غير كافية لتمكين الأنواع المهاجرة من الإنتقال.
- حجز الرواسب والمغذيات في بحيرة السد من شأنه تقليل إنتشار الحياة الخضراء أمام السد والذي بدوره سيؤدي إلى إلى تغيير الأنظمة البيولوجية أمام السد نتيجة التغييرات الحاصلة في تجهيز المغذيات nutrients ) (والبيئة الكيميافيزياوية.
- تحلل الغطاء النباتي المغمور في مياه البحيرة المتكونة حديثا خلف السد والذي يعمل على اطلاق المغذيات ومنها النتروجين والفسفور. وإذا أضيف إلى ذلك حالة ترسب المواد العالقة ووقف انتقال المواد العضوية والمغذيات عبر السد، فإن ذلك كله سيعمل على زيادة الانتاجية الاولية (primary productivity ) للبحيرة المتكونة حديثا وما يتبع ذلك من ترد لنوعية المياه لاحقا.
- اختفاء انواع مختلفة من الكائنات الحية وظهور أنواع أخرى بشكل مكثف ومنها سرخس المياه الذي يؤدي انتشاره فوق سطح البحيرة الى منع وصول الضوء الى النباتات الاخرى، مانعا بذلك حصول عملية التركيب الضوئي وانطلاق الاوكسجين من خلالها الى مياه البحيرة، وكذلك اعاقة مزج المياه السطحية للبحيرة بتأثير الرياح. كل ذلك سيعزز حالة استنزاف الاوكسجين في طبقات المياه السفلى من البحيرة. وبالتالي فان المياه الخارجة من اسفل السد والمصرفة الى حوض دجلة في العراق ستعاني من نقص في الاوكسجين المذاب مع ما يتبع ذلك من تأثيرات سلبية كبيرة على النظام البيولوجى للنهر وثروته السمكية اضافة الى تدني قدرة النهر على التنقية الذاتية.
- وعلى الرغم من ان مشكلة عجز الاوكسجين المذاب في طبقات المياه السفلى يمكن ان تخفف اثناء خروج المياه عبر التوربينات الا انه يعتقد بانها لن تكون كافية للتغلب على هذه المشكلة بالشكل المطلوب نظرا لمحدودية الفترة الزمنية التي تمر فيها المياه خلال التوربينات.
- واضافة الى معاناتها من عجز في الاوكسجين المذاب فان المياه المنطلقة من بوابات السد السفلى عادة ما تحتوي على تراكيز مختلفة من هيدروكسيدات الحديد والمنغنيز، وكبريتيد الهيدروجين الناتج من عمليات التحلل اللاهوائي في الطبقات السفلى من البحيرة والذي من شأنه التسبب في تآكل المعادن والخرسانة التي تكون بتماس مع هذه المياه.
- حصول تغييرات دراماتيكية في مجموعة النباتات flora ومجموعة الاحياءfauna في المياه بعد الحصر والتي عادة ما تحتاج الى سنوات عديدة كي تستقر شرط عدم حدوث أي تغييرات اخرى تتبع الحصر. ومن الطبيعي ان تنتقل هذه التغيرات الى المياه الخارجة من السد الى العراق.
- تأثر الاحياء المائية في مجرى النهر امام السد بارتفاع مستوى الملوحة الذي سوف يطرأ على المياه المخزونة نتيجة التبخر. ومن الطبيعي والمتوقع ان يكون هذا التأثير اكبر في المياه الخارجة من سد الموصل نظرا للمزيد من التبخر الذي سوف يحصل في المياه الواصلة الى بحيرة سد الموصل بعد خروجها من سد اليسو.
- انتشار الحشرات والرخويات الناقلة للأمراض، اضافة للقشرياتcrustacea .
- إن درجة حرارة المياه الخارجة من السد عموما لا تتوافق مطلقا مع النظام الطبيعي لدرجات حرارة النهر. لذلك فمن المقدر أن يتغير النظام الحراري لنهر دجلة اسفل سد اليسو بشكل ملفت للنظر. وقد يمتد هذا التأثير الى عشرات الكيلومترات خلال مجرى النهر. ومن الثابت لدينا في علم البيئة ان درجات حرارة المياه هي من الخصائص المهمة في تقدير اضرار السدود على بيئة الاحياء المائية في احواض النهار اسفل السدود. ويعزى ذلك الى تأثير درجة حرارة المياه على العمليات الفيزياوية والكيمياوية والبيولوجية في النهر. ومن هنا نجد ان التغيرات في درجات حرارة النهر تعد من اشد العوامل المؤثرة على سلسلة الاحياء المائية.
- ستتظافر عوامل كثيرة منها حالة التطبق الحراري في البحيرة، وارتفاع درجات حرارة المياه الخارجة من السد في اوقات معينة من السنة لجعل المياه الداخلة للعراق تعاني من نقص حاد في الاوكسجين المذاب. وهذه الحالة، وعلى الرغم من انها تعد مشكلة بيئية بحد ذاتها الا ان ما يترتب عليها من آثار اخرى تزيد من اهميتها. من ذلك ان المياه التي تعاني من نقص الاوكسجين المذاب تتدنى قدرتها بشكل كبير على اكسدة المواد العضوية والملوثات الاخرى التي تطرح الى النهر والتخلص منها فيما يسمى بعملية التنقية الذاتية ( self purification (. واذا ما نظرنا الآن الى هذا الأمر من زاوية أخرى لبدت الصورة اكثر قتامة. فالانخفاض الكبير الذي سوف يحدث في تصريف النهر إذا ما ترافق مع عجز في الاوكسجين المذاب سيؤدي الى تدني قدرة النهر على تخفيف اطنان الملوثات التي ستطرح اليه خلال مروره بالمدن العراقية المتعاقبة. ومع الأخذ بنظر الاعتبار النمو الصناعي المحتمل في البلد مستقبلا فإن النهر يمكن ان يتحول الى مجرى لمياه الصرف المدنية والصناعية ليس اكثر. فالصناعة ستحاول جاهدة ان تلبي احتياجاتها المائية من النهر لتعيد اليه الآف الأطنان من مختلف الملوثات واهمها العضوية التي ستفاقم حالة عجز الاوكسجين التي سيعاني منها النهر دون شك.
- 12. ان نوعية المياه الخارجة من البحيرات الصناعية المتطبقة (stratified reservoirs ) تحدد عادة بمستوى منشآت التصريف outflow structures ) ) نسبة الى مختلف طبقات المياه في البحيرة. فخلال فصل الصيف وإذا ما تم تصريف المياه من الطبقة السطحية للبحيرة فستكون هذه المياه دافئة، خالية من المغذيات وحاوية على تركيز جيد من الاوكسجين المذاب. وعلى العكس من ذلك فإن المياه المصرفة من المناطق السفلى ستكون باردة، خالية من الاوكسجين المذاب وغنية بالمغذيات.
- ضمن المنطقة الجغرافية المعتدلة ( 23.3 – 66.3 درجة شمالا ) التي يقع فيها كل من العراق وتركيا، وفيما يخص حرارة المياه المصرفة صيفا من الطبقات السفلى(hypoliminion) للبحيرة فالمتوقع ان تكون هذه المياه ابرد بكثير من مياه النهر الطبيعية. أما شتاءاً فغالباً ما ستكون حرارة المياه المصرفة اعلى بقليل جدا من حرارة النهر الاصلية. ويبين الشكل رقم (1) نموذج للتباين المتوقع لدرجات حرارة المياه خلال اشهر السنة المختلفة بين حرارة النهر الطبيعية وحرارة المياه المصرفة من الطبقات السفلى لبحيرة السد.
شكل رقم 1: نموذج لاختلاف درجات حرارة المياه خلال اشهر السنة بين حرارة النهر الطبيعية وحرارة المياه المصرفة من الطبقات السفلى لبحيرة السد.
- في المناطق المعتدلة وفي بعض الحالات تزداد كثافة الثروة السمكية في حوض النهر أمام السد وذلك بسبب النظام الحراري المعدل للمياه وتزايد الانتاجية الاوليةplankton) ) في المياه، وكذلك انخفاض العكورة والتي هي عوامل مفضلة لبعض انواع الاسماك. وهذه الحالة تبدو واضحة من خلال الشكل رقم (2).
شكل رقم 2: تغاير كثافة الثروة السمكية في حوض النهر أمام السد خلال أشهر السنة
الآثار السلبية المترتبة على استخدام الأسمدة غير العضوية في الأراضي الزراعية العراقية للتعويض عن الخلل المتوقع بعد إقامة سد اليسو التركي
إن مما لاشك فيه أن توقف موجات الفيضان السنوية في حوض نهر دجلة بعد إقامة سد اليسو سوف يحرم السهول الفيضية لهذا الحوض اسفل السد (downstream ) من اطنان الغرين (silt) الذي يعد مخصباً طبيعياً له اكبر الأثر في اثراء التربة الزراعية ورفع وتيرة الإنتاج الزراعي. وتعويضا لهذا النقص الحاد المتوقع في الخصوبة الطبيعية المجانية فإن على العراق استخدام الاسمدة الكيمياوية غير العضوية( inorganic fertilizers ) وبكلفة يمكن ان تصل الى عشرات الملايين من الدولارات.
ان من الثابت ان الاسمدة الكيمياوية غير العضوية والتي اخذ استخدامها يعم الدول النامية بهدف تحسين وزيادة انتاجها من المحاصيل الزراعية، تساهم في نمو الانتاج الزراعي العالمي بحوالي ( 40% ). ولكنه في الوقت نفسه فإن هذه الاسمدة لها من المردودات السلبية قياسا إلى الخصوبة الطبيعية الشيء الكثير منها مايلي:
- خفض محتوى التربة من المواد العضوية ومن ثم قابلية التربة على الاحتفاظ بالماء.
- خفض محتوى التربة من الاوكسجين الذي ينعكس سلبا على قدرتها على تمثيل المخصبات .
- ما توفره الاسمدة غير العضوية للتربة لا يتجاوز 2 أو 3 من مجموع المغذيات ( nutrients ) التي يحتاجها النبات والتي يزيد عددها على العشرين نوعا من المغذيات.
- يحتاج انتاج الاسمدة غير العضوية الكثير من الطاقة لإنتاجها ونقلها ووضعها في التربة.
- يؤدي استخدام الاسمدة غير العضوية الى اطلاق غاز اوكسيد النتروز N2O الذي يعد من غازات الدفيئة( greenhouse ) المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري في الكرة الارضية.
- التسبب في تلوث المياه السطحية نتيجة وصول المغذيات الداخلة في تركيب الاسمدة الى هذه المياه من خلال السيح السطحي( surface runoff )الذي يتبع سقوط الامطار. ومن اهم هذه المغذيات النتريت NO3 والفوسفات PO4 التي تؤدي الى انتشار الطحالب التي بدورها تستنزف الاوكسجين المذاب في المياه.
- مياه الامطار الراشحة الى داخل التربة يمكن ان تحمل معها النتريت الداخل في تركيب الاسمدة غير العضوية الى المياه الجوفية. علما ان المياه الجوفية الحاوية على تراكيز عالية من النترات تعد سامة للأطفال الرضع إضافة الى تسببها بسرطان الكبد.
المصاد
Adams, W. “Downstream Impact of Dams”. World Commission on Dams. Jan. 2000.
Goldman, C. R. and A. J. Alexander “Limnology” McGraw-Hill Book Company Japan, Ltd. 1983.
“Human Health and Dams”. World Health Organization, Geneva, Nov. 1999.
McCartney, M.P., et al. “Ecosystem Impact of Large Dams”. World Commission on Dams, 2000.
Miller, G. T. “Living in the Environment”, 13th ed., 2004, Thomson Learning, Inc. USA.