أضرار اليورانيوم المنضب في العراق، ملف مؤجل ، هل يفتح من جديد؟
بواسطة:الفنار للأعلام
كرست سعاد ناجي العزاوي، عالمة البيئة العراقية، الكثير من حياتها المهنية لدراسة واحدة من أكثر المشاكل الشائكة الناجمة عن سنوات الحرب في بلدها الأم – ألا وهي تأثير أسلحة اليورانيوم المنضب على البيئة العراقية وعلى صحة الإنسان هناك.
عانت بيئة العراق من أضرار جسيمة خلال ما يقرب من أربعة عقود من الحروب. يواصل العلماء والباحثين في مجال البيئة والحكومة في العراق تقييم مدى آثار النزاع المسلح على الهواء والمياه والتربة في البلاد وتأثير ذلك على صحة الشعب العراقي.
وبالرغم من أن العزاوي تقاعدت من الناحية المهنية وتعيش في أبو ظبي، إلا أنها تواصل نشر الأبحاث والحملات بشأن هذه القضية، التي تراجع اهتمام الرأي العام بها إلى حد كبير، على الرغم من أن المشكلة لم تنته بعد. ففي أيار/ مايو، نشرت جمعية خيرية خاصة مقرها قطر، هي منظمة المجتمع العلمي العربي، ورقة للعزاوي بعنوان “نمذجة انتقال ملوثات اليورانيوم المنضب جنوب العراق“.
يعتبر اليورانيوم المنضب – وهو ناتج عرضي عن توليد الطاقة النووية – مادة فعالة في القذائف المضادة للدبابات. تصل المادة المشعة إلى درجات حرارة عالية عند الاصطدام بدرع الدبابة: وتصبح ساخنة بدرجة كافية لإذابة الدروع إلى جزيئات دقيقة تحملها الريح كغبار. يجادل دعاة حماية البيئة والعديد من العلماء في كون هذا الغبار المشع يلوث الهواء والمياة والتربة، وله عواقب وخيمة على صحة الإنسان – خاصة إرتفاع حالات الإصابة بشكل واضح بالسرطان وسرطان الدم والعيوب الخلقية الشديدة في المناطق التي استخدمت فيها أسلحة اليورانيوم المنضب.
قال ريناد منصور، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس، والمتخصص في إعادة إعمار العراق ما بعد الحرب، “لم يعد الأمر موضوعًا يتحدث الناس عنه كثيرًا الآن. لا أعرف لماذا.”
بينما تشير عمليات البحث في قواعد البيانات والإنترنت إلى تضاؤل عدد الأبحاث المنشورة حول هذا الموضوع في السنوات الأخيرة، إلا أن العزاوي لم تتوقف عن النشر وقيادة الحملات التوعوية. إذا قامت بإلقاء المحاضرات حول العالم، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة على قنوات عراقية بصفتها معلقة سياسية.
تقول “أنا لن أتوقف أبدًا.”
بعد حصولها على درجة بكالوريوس العلوم في الهندسة المدنية من جامعة الموصل في أوائل الثمانينيات، غادرت العزاوي العراق – برفقة أطفالها الثلاثة – إلى الولايات المتحدة لدراسة الجيولوجيا والهندسة البيئية في كلية كولورادو لعلوم المناجم. وكان موضوع بحث الدكتوراه الخاص بها عن تلوث المياه الجوفية الناجم عن توليد الطاقة النووية.
في عام 1991، عادت إلى العراق، في منتصف الحرب التي أعقبت غزو العراق للكويت. وفي عام 1996، بصفتها مديرة برنامج الدكتوراه في الهندسة البيئية في جامعة بغداد، قادت فريقًا أجرى استطلاعًا ميدانيًا لقياس آثار الإشعاع على المدنيين والجنود في جنوب العراق في أعقاب الحرب.
وكتبت في لمحة عامة عن العمل: “تلقى الناس في الجزء الغربي من مدينة البصرة، والقوات العراقية والأميركية … جرعة مشعة تزيد بحوالي 200 مرة عن الجرعة الطبيعية.”
في الوقت نفسه، أظهرت الدراسات الوبائية التي أجراها أعضاء هيئة التدريس في كلية طب البصرة وجود علاقة بين التلوث باليورانيوم المنضب والمرض. إذ زادت حالات سرطان الدم لدى الأطفال في البصرة بنسبة 60 في المائة من عام 1990 إلى عام 1997، على سبيل المثال. في ذات الفترة، كانت هناك زيادة ثلاثة أضعاف في عدد الأطفال المولودين بعيوب خلقية شديدة.
قالت العزاوي “لم يعرف أحد كيفية التعامل مع المشكلة. لقد بقي حطام الدبابات والشظايا المشعة بالقرب من أماكن سكن الناس. كان الأطفال يلعبون بالرصاص المستخدم في الحرب. وكانت أغلفة رصاص اليورانيوم المنضب لامعة ونظيفة، وكان الأطفال يجمعونها ويأخذونها إلى المنزل.”
بدخول الغبار المشع إلى سُحب الغبار، امتد التلوث إلى المدن.
استغرق العمل ما يقرب من سبع سنوات، وواجهت العزاوي عقبات من داخل العراق وخارجه. محليا، كان عملهم غير مرغوب فيه لأنه يظهر صورة غير مواتية للظروف في البلاد.
قالت “كان عملنا علميا. كنا نقول أن هذا [الحطام] مشع، وأنه غير آمن بالنسبة للمدنيين. كان الجميع يهاجموننا، حتى من داخل العراق. قالوا، “هؤلاء الناس [الباحثون] سيجعلون الناس يهاجرون من البصرة، ولن يشتري أحد ثمارنا [خوفًا من التلوث].” وأضافت “كنا نقول الحقيقة.”
في الوقت ذاته، كان العراق لا يزال يخضع لعقوبات الأمم المتحدة التي أضعفت الاقتصاد العراقي وعزلت البلاد عن بقية العالم. لم يكن في إمكان الباحثين نشر نتائج أبحاثهم في الخارج أو تلقي المنشورات العلمية المنشورة خارج العراق.
عندما أصبح الاستمرار في عملهم خطيرًا للغاية، تم حل فريق البحث. في عام 2003، هربت العزاوي من البلاد ووجدت ملجأً في سوريا حيث تم تعيينها كمديرة في جامعة المأمون للعلوم والتكنولوجيا بالقرب من حلب، إحدى الجامعات الخاصة التي تأسست في الأيام الأولى من حكم بشار الأسد. وفي العام ذاته، حصلت على جائزة التعليم من مؤسسة المستقبل الخالي من الأسلحة النووية ومقرها ألمانيا. بقيت العزاوي في سوريا لمدة سبع سنوات.
من دون أدنى شك، لا يزال من الصعب إثبات وجود علاقة سببية مباشرة بين اليورانيوم المنضب والآثار الصحية. قالت العزاوي “الأمر يشبه العلاقة بين السجائر والسرطان،” في إشارة إلى الصراع الطويل بين شركات التبغ الأميركية والعلماء بخصوص كون تدخين السجائر من أسباب الإصابة بالسرطان. حتى يتم الوصول إلى نسبة مهمة من البحوث، يمكن دائمًا رفض وجود إرتباط بين الأمرين.
قال دوغ وير، مدير البحوث والسياسات في مرصد الصراع والبيئة، وهي منظمة مقرها المملكة المتحدة وتواصل جهود حملة لحظر استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب، “لا تزال هناك عقبات أمام إجراء مثل هذا البحث الأساسي.”
وأضاف “من الصعب إجراء البحوث اللازمة في العراق. على الرغم من وجود اهتمام من جانب المجتمع المدني في العراق بآثار اليورانيوم المنضب، إلا أن وزارة البيئة العراقية أوقفت عمل قسم الحماية من الإشعاع التابع لها عند ظهور داعش (ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية) الذي فرض عليهم إجراء تغيير في أولوياتهم.”
من العقبات الأخرى التي تواجه إجراء الأبحاث حول آثار أسلحة اليورانيوم المنضب موضوع السرية الرسمية التي تحيط بالأمر. قال وير إن وصمة العار تحيط بالأسلحة المشعة تشجع على السرية الحكومية. وأضاف بأن البيانات المتعلقة بأماكن استخدام أسلحة اليورانيوم المنضّب يجب أن يتم كشفها بدقة من حكومة الولايات المتحدة باستخدام طلبات قانون حرية المعلومات.
في الواقع، يتمثل أحد أهداف العزاوي المتبقية في إقناع حكومة الولايات المتحدة بتحمل المسؤولية عن الأثر البيئي لأسلحة اليورانيوم المنضب التي استخدمت في العراق منذ عام 1990 وما بعده.
قالت “أنتم السبب وعليكم تحمل المسؤولية.”