سلمية، سلمية ، لاتقتلوني !
هل تمثل احتجاجات الشباب العراقي في الاول من تشرين الاول، حراك لا عنفي؟
المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي ١٧ – تشرين الاول ٢٠١٩
انتفاضة الاول من تشرين الاول التي انطلقت من ساحة التحرير في بغداد، بعنوان انتفاضة سلمية، انتجت عدد هائل من الضحايا يصل الى ١٠٨ قتيل وحوالي ٧٠٠٠ الاف جريح، حسب المصادر الرسمية، معظمهم من المحتجين وبعضهم من قوات الشرطة والامن. كذلك رافقت الاحتجاجات احداث عنف من نوع اخر، مثل حرق مقرات بعض الاحزاب، خصوصا في محافظة ذي قار، وحرق لبعض عجلات الشرطة او الجيش، واعتداءات طالت مكاتب قنوات تلفزيونية عملت على تغطية الاحداث في بغداد، فيا ترى من اين اتى كل هذا العنف!
لنبدأ من ساحات الاحتجاج في بغداد، كل المؤشرات تدل على ان الاحتجاجات انطلقت بشكل سلمي، عدد غير قابل للحصر من الصور والفيديوهات تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، يثبت ان المحتجين كانوا، على الاقل الاغلبية العظمى، لا يحملون سوى اعلام وهواتف (ارجع للمقالة بعلم وهاتف)، وكانوا يرددون “سلمية سلمية”، والبعض منهم حمل لافتات مكتوب فيها
“نحن نحتج بشكل سلمي، لا تطلقوا النار علينا، لا تقتلونا”
هكذا كان الحال في بغداد وذي قار والديوانية، وكذلك في المحافظات التي التحقت بالاحتجاج بعد يوم ١ تشرين الاول.
كذلك رفض عدد مهم من المتظاهرين اي احداث تخريب قد ترافق الاحتجاج، وعبروا عن ذلك في أكثر من مناسبة، و اكثر الصور المعبرة كانت لاحد الشباب المنخرطين بالحراك منذ اكثر من عامين، من البصرة حمل لافتة تقول:
“انا متظاهر، انا ضد التخريب”
تعبيرا عن رفضه ان يتضمن الاحتجاج تخريب لأموال الدولة او مؤسساتها. لكن هذا لم يمنع من الانتقام من هذا الناشط بالذات، كما سنرى لاحقاً. فحسين تم اغتياله في منزله مع زوجته سارة الناشطة في حراك الاحتجاج في منزلهما في البصرة.
انطلاق القمع والمواجهات
في بغداد بدأ القمع والمواجهات عندما حاولت شرطة مكافحة الشغب تفريق المتظاهرين من ساحة التحرير ومنعهم من التوجه نحو جسر الجمهورية وذلك بأطلاق المياه الحارة والغاز المسيل للدموع، والرصاص الحي. وهو ما ثبته بدقة تقرير اعدته منظمة السلام والحرية ومركز النماء لحقوق الانسان بعنوان *”سياط القمع”. وكتبت احد المتظاهرات على صفحتها ان ملاحقة المتظاهرين استمرت في الشوارع والافرع القريبة من ساحة التحرير وان بعض العربات التابعة لقوات الامن قامت بدهس عدد من المحتجين، وسقط عدد من الجرحى والشهداء نتيجة اطلاق نار مباشر. وفي اليوم التالي استمر الاحتجاج وازداد عدد المحتجين وانتشر في محافظات اخرى. وفي الايام التالية قامت قوات امن من قوات SWAT ومكافحة الشغب بمحاصرة المحتجين في عدد من الازقة المجاورة لساحات الاحتجاج، واقتحموا عدد من المحلات التجارية التي ساعدت المحتجين.
فيما استمر استهداف المحتجين بالرصاص الحي، تمترس عدد من المحتجين بحواجز وقام البعض منهم برمي حجارة او حرق إطارات كما وانتشرت صور لشباب يحتضنون زملائهم من المحتجين الشهداء وكذلك مشاهد لأكثر من شاب يقتل برصاص حي اثناء تحدثه امام الكاميرا!
وكانت هناك سيرة مشابهة للقمع الحكومي لهذه الاحتجاجات في باقي المحافظات. وقامت الحكومة بفرض حضر التجوال وبحجب مواقع التواصل الاجتماعي وثم قطع خدمة الانترنت، أو اعادة الخدمة فقط في ساعات محدودة وبسعات واطئة، كتكتيك حكومي لمنع مشاركة المواد الصورية والاخبار عن الاحتجاج، ومنع المحتجين من التحشيد والتنظيم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
ومع استمرار الاحداث وتصاعدها دخل على خط القمع جهات اخرى غير معروفة بشكل صريح. فبينما يعرف العراقيون: جهاز مكافحة الشغب، وقوات SWAT، والشرطة، هم لا يعرفون من قام بنشر عدد من القناصين على بنايات عالية في بغداد وبعض المدن الاخرى. هؤلاء القناصة كانوا يطلقون النار على المحتجين بشكل مباشر بهدف القتل، كما يؤكد التقرير *“سياط القمع” حالات القتل التي قاموا بها وبالفعل تداول المحتجون صور ومشاهد فيديو لعدد من المحتجين وهم يسقطون قتلى في اصابات مباشرة بالراس او بالرقبة في صفحات او مجاميع مختصة على الفيس بوك، لكن بعض هذه الصور والفيديوهات تم حذفها بسبب تضمنها مشاهد دموية لشباب عزل يسقطون مضرجين بدمائهم (مثال هذه المجموعة).
يشك الجمهور العراقي بان هؤلاء القناصة تابعون بشكل او بآخر لقوات الحشد الشعبي كان تكون تابعة لأمن الحشد الشعبي أو أحد فصائل الحشد المسلحة، لكن ذلك يبقى غير مؤكد. وبالرغم من كون الحشد الشعبي وامنه وقواته تعتبر رسميا جزء من القوات المسلحة العراقية، بالتالي هي تحت امرة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، لكن من الصعب القول من اعطى الاوامر لهؤلاء القناصة ومن هي الجهة التي يتبعون لها. وبالفعل تحدثت وزارة الداخلية العراقية عن ان الحكومة العراقية لا تعرف من هم هؤلاء القناصة ومن قام بنشرهم. بالطبع كل هذا لا ينفي المسؤولية الحكومية عن الجرائم التي ارتكبها هؤلاء القناصة، خصوصا وانهم استخدموا في اغلب الاحيان بنايات حكومية عالية للتمركز.
كما قامت مجاميع مسلحة غير مُعرّفة باقتحام مكاتب محطات تلفزيونية في بغداد، مثل قناة NRT والحدث ودجلة، حيث كسروا المعدات واعتدوا على الكوادر وتركوا خلفهم الخوف والرعب وايقاف البث والخدمة التي كانت تقدمها المكاتب لتغطية احداث الاحتجاجات.
وقامت مجموعات مشابه، باقتحام شقة الناشط حسين وزوجته سارة وإطلاق النار عليهما ليرديهما قتيلين في الحال. وفي أماكن أخرى، قامت بعض المجاميع المجهولة باختطاف بعض الناشطين المهمين.
على الرغم من صعوبة اتهام جهة محددة لكن الواضح ان هذه المجاميع المسلحة كانت تعمل وبشكل مباشر على اخماد الاحتجاج. ويشك الجمهور العراقي بانها متصلة بالأحزاب السياسية ذات النفوذ في الحكومة الحالية وفي النظام السياسي القائم في العراق وعلى الاخص في ذي قار والعمارة والبصرة.
وهكذا يبدو ان منظومة قمع احتجاجات تشرين الاول كانت تشمل أكثر من جهة ومن الارجح انها اشتملت على التالي: –
1) قوات مكافحة الشغب – حكومية
2) قوات التدخل السريع (SWAT)- حكومية
3) قوات من الجيش – حكومية) أعلن عن سحبها لاحقا – مدينة الصدر (
4) فرق قناصة منظمة – مشتبه بارتباطها بأمن الحشد الشعبي، لكن لا تأكيد حول ذلك
5) مجاميع مسلحة وحراس مقرات احزاب ذات نفوذ – (خصوصا محافظات جنوب العراق: ذي قار، عمارة، الديوانية)
العنف الصادر من المحتجين
يبدو من متابعة التقارير والمواد الاعلامية، بان اغلب المحتجين التزموا بالسلمية في احتجاجهم لكن مع ذلك لجاء البعض منهم لرمي الحجارة او حرق الاطارات لقطع الطرق، او التمركز خلف حواجز وضعت على الطريق، وهي تكتيكات شائعة بين المحتجين عند تعرضهم لقمع شديد.
ومع استمرار الدعوات للسلمية، كذلك لا ينكر وجود أطراف حاولت الترويج للعنف كسبيل اوحد للتغيير، وهذه الدعوات الخطيرة تستمد قوتها من تكرار القمع وعدم جدوى الحراك السلمي في تغيير واقع العراق، امر ينذر بمخاطر تفشي العنف.
كما حصل ايضا إطلاق نار وحرق، خصوصا من بعض افراد العشائر في محافظات جنوب العراق او مدينة الصدر جنوب بغداد، التي انضمت الى الاحتجاج عندما قامت بتشييع ابنائها الذين استشهدوا، فالبعض منهم قاموا اثناء التشييع او بعده، بأطلاق نار وحرق مقرات احزاب خصوصا في الناصرية وذي قار، او حرق عربات عسكرية كما في بغداد، وساهم بعض المحتجين بهذه الافعال التي شوهت من الحراك الاحتجاجي.
ماذا غاب من عوامل الاحتجاج اللا عنفي في انتفاضة الاول من تشرين الاول؟
لابد من الاعتراف بان اهم ما غاب عن هذه الاحتجاجات هو الالتزام بمتطلبات النضال اللاعنفي، وأبرزها التخطيط الاستراتيجي، القيادة الموحدة والمجال للتفاوض حول مطالب المحتجين. وهنالك مفارقة حول هذا الامر، فبينما يعتز الجمهور بكون احتجاجات الاول من تشرين الاول كانت عفوية وبدون قيادة موحدة، معتبرين هذا دليلا على استقلاليتها، لكن بنفس الوقت، هذا قد يبين عوامل قصور الحركة عن الوصول للنتائج المرجوة منها. كما اضاف شعار اسقاط النظام صعوبة كبيرة لاستمرار الحراك وربما كان من اسباب تصاعد القمع بسرعة وبأشكال متعددة، حيث كان من الصعب التفاوض حول مطلب بهذه الراديكالية وبنفس الوقت لم يكن هنالك ثقة بوعود الحكومة لأنها تكررت منذ اعوام بدون تنفيذ. كل ذلك لا يقلل من حجم التقصير والمسؤولية التي تتحملها الحكومة العراقية والطبقة السياسية الحاكمة عن هذا القدر الكبير من الضحايا والعنف الشديد.
ويستعد المحتجون لإطلاق حراك جديد متوعدين ان ينطلق في يوم الجمعة ٢٥ تشرين الاول، بعد انتهاء زيارة الاربعين ويستخدمون عبارة وهاشتاك #سلمية ويدعون للبس الاكفان البيضاء في اشارة على الاستعداد للموت. ويجري التحشيد بشكل واسع للتظاهر يوم ٢٥ عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويتم تداول مطالب المحتجين من حين لآخر، وبعض هذه المطالب تتسم بالراديكالية معبةر عن حالة من الياس في اصلاح النظام القائم. وعلى سبيل المثال المنشور الذي عمم في جنوب العراق حمل التالي:
١) الغاء الدستور وتشكيل لجان تشرف على ذلك
٢) تحويل النظام العراقي من برلماني الى رئاسي وانتخاب الرئيس مباشرة
٣) الغاء جميع الاحزاب
ويتعذر معرفة القيادة الموحدة او مدى امكانية توجيه الحراك والتفاوض حول هذه المطالب في هذه المرة كما حصل في الاول من تشرين الاول. الامر المؤكد بان الاعداد لحراك سلمي ليس كافيا للوصول لحركة احتجاج لا عنفي منضم كفيل بتغيير الوضع السياسي القائم او حتى اصلاحه.