الشباب العراقي يقاتل من أجل الحصول على دولة حديثة مستقلة
بقلم: QUENTIN SOMMERVILLE
لعقود من الزمن كانت البلاد تتعرض للوحشية من خلال الديكتاتورية والحروب والفساد والبطالة. اما الان فيخاطر شباب العراق بحياتهم مرة أخرى لإحداث ثورة سياسية.
في أول زيارة لي لبغداد منذ عامين، كنت احمل معي نسخة من كتاب “حديقة الرئيس” لمحمد الرملي، وهي الملحمة الحديثة الرائعة للمعاناة والشمولية العراقية. في 350 صفحة، لم يظهر اسم صدام حسين مرة واحدة، لكن إرهاب الدكتاتور و جنونه أصبحا واضحين.
العراق مثقل بإرث صدام، وكذلك الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات و الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 للإطاحة بصدام حسين وتدمير الدولة البعثية والحرب الأهلية في 2014 -2017 وحكم الدولة الإسلامية (داعش) المرعب. لكن شباب العراق قد ذاقوا ذرعا بما حصل عند الحواجز “الساتر” في الشاطئ المؤقت الذي صنعوه على ضفاف نهر دجلة، وفي وسط ساحة الاحتجاج النابضة في ميدان التحرير، وسط العاصمة. لم أسمع اسم صدام يذكر ولو لمرة واحدة أيضا – لقد كانت هذا أول زيارة لي لبغداد منذ سنوات.
لقد اكتفى المتظاهرون من ذرائع استخدام الماضي القريب لحرمانهم من المستقبل. حيث خرجوا إلى الشوارع في موقف ضد الطائفية والنفوذ الأجنبي والفساد والبطالة. وكان رد قوات الأمن العراقية هو استخدام القوة المميتة، والتي توفي على اثرها أكثر من 600 شخص منذ بدء الاحتجاجات في أكتوبر من العام الماضي.
على طريق محمد القاسم السريع في وسط بغداد، وقف كرار أسعد، 27 عاماً، مرتدياً رقعة عين. كان حاملا للعلم العراقي على كتفيه بينما اوقفت إطارات السيارات المشتعلة خلفه الطريق السريع وقد جعل الدخان المتصاعد من المطاط المحترق عيناه تدمعان.
قال لي: “نريد حياة مثل الحياة في أوروبا أو أمريكا أو بلدان أخرى. نريد سياسيين من الشعب، ولا نريد سياسيين تدعمهم إيران أو السعودية أو أمريكا أو أي دولة أخرى ، نحن نريد سياسيين … من أبناء هذا البلد”.
كانت عينه قد أصيبت في مظاهرة سابقة وكان عليه السفر للخارج لعلاجها، لكن الاماكن التي يستطيع الذهاب اليها بجواز سفره قليلة. اكمل اسعد قائلا : “سنستمر ، مع زخم الشباب في بغداد والمحافظات الأخرى حتى يتم تلبية جميع المطالب”.
حوله كانت التوك التوك الصفراء التي أصبحت بمثابة سيارات لوجستية و إسعاف للمتظاهرين تنقل الناس وسط الدخان وصفارات الإنذار التي لم تتوقف ولو للحظة واحدة. كان الشارع منقسم الى جهتين، حيث الجهة الأولى يمكنك رؤية الشرطة المسلحة كما كانت عندما قاتلت داعش، مستمرة باطلاقها للغاز المسيل للدموع والطلقات الحية لتفريق المظاهرة. اما الجهة الثانية ففيها تواجد المتظاهرون وكان بعضهم مسلح ببضعة قنابل مولوتوف وعصي.
قابلت نبراس هاشم في احد الخيام العديدة حول ميدان التحرير و كانت هذه الخيمة مخصصة لمجموعة من الفنانين. كانت لديها رسالة مماثلة لكرار أسعد، حيث قالت: “نتمنى لدول أخرى مثل الولايات المتحدة وإيران أن تسمح للشباب العراقي أن يحصلوا على ثورتهم بالحب والاحترام. نريد أن يكون العراق دولة حرة، مثل أي بلد آخر ناضل من أجل حريته “.
اما في البصرة والنجف والناصرية، يواصل المواطنون المطالبة بالتغيير. لقد أدى اغتيال قاسم سليماني – وهو قائد القيادة العامة والإقليمية لإيران – خارج مطار بغداد في الثالث من شهر كانون الثاني الماضي إلى هز البلاد. لكن حتى في ضل هذا الوضع لم يهتز المحتجون و لم يتركوا مواقعهم. كما أرسل رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي كان قد دعم الاحتجاجات في بدايتها، اتباعه وتسبب بمقتل متظاهرين شباب. وقال إن أنصاره كانوا هناك لاستئصال المتسللين والمخربين الأجانب، وبدا وكأنه ديكتاتور عربي قديم. لكن في النجف، عاد الأطفال إلى الشوارع في اليوم التالي.
العراق بلد شاب – حوالي 60 في المائة من سكانه تقل أعمارهم عن 25 سنة – وعلى الرغم من ثروته النفطية، فإنه لا يزال حطامًا. ففي بغداد ترتفع ناطحات السحاب الحديدية الجديدة كمقر المصرف المركزي العراقي الجديد، ولكن الشوارع أدناه تنهار. قد تبدو آمال المحتجين في العراق وكأنها ربيع زائف آخر في العالم العربي، وبالتأكيد فإن الاحتمالات مكدسة ضدهم، لكن هذه الحركة الشعبية، او الثورة كما يحب ان يسميها الشباب والشابات المعتصمات، مختلفة.
قال لي سياسي عراقي مخضرم: “إنها أعمق حركة اجتماعية شهدتها البلاد منذ تأسيسها في عام 1958”. الشباب والشابات في الشوارع هم من جميع الطبقات الاجتماعية والطوائف الدينية وقد وحدهم اضطراب العراق.
لقد حققوا بعض النجاح، فقد أطاحوا برئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، وأقاموا لجنة انتخابية جديدة وقوانين تصويت. لكن الطبقة السياسية الفاسدة والدينية لن تغادر بسهولة. يريد المتظاهرون انتخابات جديدة، لكن أحد الدبلوماسيين الغربيين أخبرني أنه حتى مع قانون الانتخابات الجديد، فإن الأحزاب القديمة سوف تستمر بالعيش والسيطرة براحة.
العراق بلد يعاني من اضطراب في الشخصية وفقدان السيطرة على النفس. ففي العام الماضي، قصفت أراضيه إسرائيل وتركيا وإيران والولايات المتحدة. الأمة في حالة غضب دائم بسبب انتهاك سيادتها، لكن ليس أكثر من قتل سليماني وأبو مهدي المهندس، قائد الميليشيا التي تدعمها إيران، خارج مطار بغداد الشهر الماضي. داخليا، فإن الحكومة لديها قبضة فضفاضة، و الميليشيات الشيعية، التي ساعدت في هزيمة داعش، ترهب المتظاهرين.
في مساء أحد الأيام، ذهبت إلى السفارة الأمريكية، حيث كانوا ما زالوا ينظفون علامات الحروق والكتابة على الجدران من هجوم شنته ميليشيا شيعية تدعمها إيران. طائرة هليكوبتر من طراز Chinook كانت تنتظر نقلنا إلى قاعدة الأسد الجوية في محافظة الأنبار. حيث كانت هدفًا قبل أسبوع، في 8 يناير، لقصف صاروخي إيراني – حيث كان هذا رد طهران على وفاة سليماني.
بالنسبة لي ، لقد كانت العودة إلى قاعدة تمثل مقياسا لمصلحة الولايات المتحدة في العراق. زارها جورج دبليو بوش في عام 2007 ، عندما كان الاحتلال الأمريكي في ذروته. في المرة الأولى التي ذهبت فيها ، في ديسمبر / كانون الأول 2014 ، كانت قوات الولايات المتحدة قد غادرت العراق منذ فترة طويلة وكان تنظيم الدولة الإسلامية على الأبواب تقريبًا. قال لي قائد عراقي في ذلك الوقت: “نصف دزينة من الرجال المسلحين بالعصي يمكن أن تطغى على القاعدة”، بينما اصطف الجرحى العراقيون على المدرج ونحن نغادر. كان العراق في وقتها يخسر الحرب ضد داعش. ولكن يبدو ان ذلك اصبح من التاريخ.
أعاد تنظيم الدولة الإسلامية، الولايات المتحدة إلى قاعدة الأسد والعراق. يبلغ الآن العدد الرسمي للقوات الأمريكية في البلاد حوالي 5000 جندي، لكن الرقم الحقيقي من المحتمل أن يكون ضعف ذلك. المهمة ضد داعش، والتي ما زالت بريطانيا تلعب دورًا فيها، أصبحت الآن قيد النقاش، في أعقاب مقتل سليماني.
تتواجد القواعد الجوية الأمريكية في الفراغ، معظمها لم تمسه البلدان المحيطة بها. ومع ذلك، من غير المعتاد أن تتعرض الولايات المتحدة بكل قوتها للهجوم المباشر من قبل دولة أخرى. “متى حدث آخر مرة – حادثة ميناء هاربور؟” ضحك أحد السياسيين العراقيين الذين تحدثت إليهم.
في قاعدة الأسد، تتوفر الكابتشينو والبيتزا، ولكن لم يتم استخدام اماكن تناول الطعام خوفًا من أي هجوم آخر. كانت هنالك حفر كبيرة قرب مهبط الطائرات الذي هبطت فيه طائرة Air Force One أكثر من مرة (حيث زار الرئيس ترامب القاعدة في 26 كانون الاول2018) شهادة على قوة الهجوم الصاروخي الأخير. لقد اقترب الإيرانيون من قصف المكان الذي تخزن فيه الطائرات بدون طيار، ربما اعتقادا (خاطئ على الأرجح) أن الطائرة بدون طيار التي اغتالت سليماني أطلقت من قاعدة الأسد.
وقال الكولونيل الملازم أنطوانيت تشيس “عندما وقعت الضربات الأولى ، تمكنا من رؤيتها عند وصولها”. حيث كان لدى الولايات المتحدة الكثير من التحذيرات ولذلك كان معظم أفراد القاعدة محصنين في مخابئ ولم يُقتل أحد.على الرغم من ذلك، أكثر من 100 شخص عانوا من ارتجاج في المخ.
لكن المهمة الغربية في العراق أصبحت الآن محل شك. حيث صوت البرلمان العراقي، بغياب السياسيين السنة و الاكراد، على انهاء وجود القوات الأمريكية والأجنبية في العراق بعد مقتل سليماني. ومع ذلك، يتم التخطيط لحل وسط في بغداد , ويتم اتخاذ الترتيبات لإعادة تسمية التدخل العسكري الغربي كعملية يقودها حلف شمال الاطلسي. “المهمة احتاجت إلى تغيير تسميتها في أي حال”، قال أحد كبار قادة التحالف بتفائل “داعش فقد كل أراضيه، والعراقيون الان في وضع أفضل بكثير”.
قمت بزيارة اثنين من القادة العراقيين، الذان كانا صديقان قديمان لي منذ زمن المعارك في الموصل. أحدهم مدرب من قبل أمريكا، والآخر مدرب من قبل إيران. قاتلوا بشجاعة ضد داعش وفقدوا الكثير من الرجال. مما لا يثير الدهشة، أنهم اختلفوا حول ما إذا كان الوقت قد حان لمغادرة الولايات المتحدة وغيرها للأراضي العراقية. تحول موضوع محادثاتنا إلى المتظاهرين الشباب وحول هذا الموضوع وحده، كانوا متفقين. حيث قال كلاهما، “سينتصرون”.
ربما يكون الرجال العسكريون المتشددون مذنبين في التفكير بالتمني – حيث يقف الكثيرون في طريق تحقيق النجاح من قبل المتظاهرين. لكن مرونة و اصرار العراقيين ليست بالقليل. فبلاضافة إلى العدد الكبير من القتلى، تم جرح الآلاف واحتجاز المئات.
على جسر السنك فوق نهر دجلة، حيق قام المتظاهرون ببناء خط المواجهة، مع قوات الأمن العراقية في الطرف المقابل، وحماية المنطقة الخضراء في بغداد. من هناك يمكنك سماع الموسيقى من الشاطئ الذي بناه المحتجون برمال محمولة على شاحنات. قُتل ثلاثة شبان في الليلة التي سبقت مقابلتي لحمزة علي محمد ،ذا ال 17 عامًا. ليس لديه وظيفة وكان معتصماً على الجسر منذ شهور..
العراق مكان خطير للأمل. لقد نجا علي محمد ثلاث مرات من الخطف. ثم جاءته رسالة: كان داخل الرسالة رصاصة. قال: “قالوا لي كن فتىً جيد. لم أهتم، و عدت الى الاعتصام”.
في ذلك المساء ، مررت على ساحة الفردوس ، حيث تم إسقاط تمثال صدام حسين في عام 2003. في زيارتي الأخيرة ، كان المكان لا يزال خرابًا ، لكن قاعدة التمثال ظلت مثل جذر الشجرة المريضة. يجري تجديد الساحة ويختفي التمثال الآن. اما في ميدان التحرير القريب ، كانت الخيام ممتلئة ومضيئة ، بينما كان شباب البلاد يستعدون للاحتجاجات في اليوم التالي ، والعمل على فرار العراق من الماضي.