قراءة في المشهد العراقي، مع ازمة فايروس كورونا
“انها سنة غريبة، مررنا خلال ٣ أشهر منها بكثير من المتغيرات والتقلبات السياسية والاجتماعية”، هكذا بدأ محمد، الطالب الجامعي، ٢٢ سنة، حديثه واصفاً المشهد العام في العراق منذ بداية العام الجاري، واكمل محمد: “مع مطلع العام اخذت الاحداث تتوالى بشكل سريع بدءاً من اغتيال سليماني والمهندس، ثم التصعيد بين القوات الامريكية والميليشيات الموالية لأيران وضرب بعض المواقع العسكرية للطرفين داخل العراق، ثم الهجمات الدموية التي طالت المحتجين وساحات التظاهر وتضمنت احداث حرق وقتل في البصرة وبغداد والناصرية والنجف، وصولاً الى التصعيد الذي صاحب اختيار رئيس الوزراء الانتقالي المكلف محمد توفيق علاوي، ثم ازمة فايروس كورونا التي تسيدت المشهد اخيراً”. فيما يتشارك الكثير من العراقيون قلقهم من حالة عدم الاستقرار السياسي واختلال التوازن الاجتماعي في ظل ازمة وباء فايروس كورونا التي تشهدها البلاد اسوة بدول العالم اجمع.
مع بداية انتشار فايروس كورونا أواخر العام الماضي في الصين، كانت انظار الرأي العام في العراق متجهة نحو ساحات التظاهر التي شهدت أكبر حراك احتجاجي سلمي بتاريخ البلاد. غير ان مستوى القلق في العراق اخذ بالتنامي بعد انتشار الفايروس خارج حدود الصين واقترابه كثيراً من العراق بعد تسجيل مئات الحالات أواخر شهر شباط في إيران المجاورة للعراق والتي يقصدها الكثير من العراقيين للسياحة الدينية او العلاج.
وكرد فعل بهدف الاستجابة لمتطلبات الازمة، تم تشكيل لجنة الامر الديواني رقم 55 لسنة 2020، والتي اصدرت جملة من الاجراءات بغية الحد من انتشار المرض داخل العراق بعد تسجيل بعض الإصابات في بغداد والسليمانية والنجف، منها:
- غلق الاماكن العامة كالمقاهي والمطاعم ودور السينما.
- منع السفر الى 10 دول التي تفشى فيها الفايروس من ضمنها إيطاليا والصين وايران، وفحص القادمين منها.
- حظر التجمعات في الأماكن العامة.
- تعطيل الدوام الرسمي في المؤسسات التربوية والجامعات اعتبارا من 27 فبراير
تم اصدار هذه القرارات بتاريخ 26 فبراير 2020، الا انه لم يتم تنفيذها او تطبيقها بشكل جدي. وبضغوط سياسية، استمرت رحلات الطيران، حتى مؤخرا، بين العراق وايران رغم كل التحذيرات ورغم اكتشاف حالات عديدة لاشخاص حاملين للمرض كانوا قد عادوا من ايران قريبا.
يلقي اضطراب المشهد السياسي بظلاله على مجريات الاحداث، حيث ان الأطراف السياسية لم تنجح باختيار رئيس للوزراء منذ شهر نوفمبر الماضي بعد اقالة رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي، وبهذا فأن الحكومة الحالية التي يقودها عبد المهدي تعتبر حكومة تصريف اعمال بصلاحيات محدودة لحين تسليم المهام لرئيس جديد لمجلس الوزراء. وبهذا تكون قدرة الأجهزة التنفيذية مقيدة نسبياً فيما يلقي العراقيون باللوم على الطبقة السياسية التي جرت البلاد لهذا المأزق بسبب الخلافات على المناصب والمكاسب مما عرقل عملية اختيار رئيس جديد لمجلس الوزراء.
من جانبها دعت خلية الازمة التي تشكلت من ممثلين عن الوزارات ذات الصلة، دعت المواطنين والأجهزة الأمنية على حد سواء للتعامل مع الازمة بشكل أكثر حرص وجدية، فيما أصدرت جملة من التعليمات كانت مكملة لقرارات لجنة الامر الديواني رقم 55. وخلال جلسة مجلس الوزراء الأسبوعي التي انعقدت بتاريخ 17 اذار، تم فرض حظر التجوال من 17 الى 23 اذار بين المحافظات العراقية فيما يستثنى من القرار شاحنات نقل المواد الغذائية وسيارات الإسعاف والأجهزة الأمنية، كما تم تعليق رحلات الطيران لمدة أسبوع بالإضافة الى القيام بحملات تعقيم في اغلب المناطق العراقية. لاحقاً تم تمديد حظر التجوال ليكون الى غاية 11 نيسان بسبب ازدياد حالات الاصابة.
وبرغم كل الإجراءات المذكورة، لا تزال اعداد المصابين في تزايد ملحوظ، مع اجمالي إصابات بلغ ٣١٦ حالة و٢١٤ حالة نشطة و٢٧ حالة وفاة بسبب الفايروس حتى لحظة كتابة هذا التقرير. ولعل اكبر المخاوف التي تقلق الراي العام هو ضعف منظومة الرعاية الصحية وقصور قدرتها على استيعاب جميع المصابين في حال تضاعفت الاعداد بمعدلات اكبر.
من جانبها دعت المرجعية الدينية في النجف الاشرف الى التوقف عن أداء صلاة الجماعة منعاً لانتشار الوباء، كما دعت المواطنين للبقاء في منازلهم، الا ان هذا لم يمنع الاف الناس من المشي صوب مرقد الامام الكاظم بذكرى استشهاده خلال الأيام القليلة الماضية في منطقة الكاظمية في بغداد. مما اجبر إدارة المرقد على فتحه بعد ان اغلقته خلال الأيام السابقة كمحاولة لمنع التجمعات الكبيرة قربه خوفا من انتشار الفايروس. بالمقابل، اصر زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى محمد الصدر، على ضرورة زيارة الصحن الحيدري وإقامة صلاة الجماعة في مسجد الكوفة، مما دفع اتباعه لكسر إجراءات الحظر والتجمع بالالاف في أماكن متفرقة، الامر الذي اثار حفيظة المراقبين فيما وصفه اخرون بالسلوك غير المسؤول. ولكن غير الزعيم الصدري موقفه هذا بعد ان ارسل وزير الصحة، جعفر علاوي، رسالة الى مقتدى الصدر، يدعوه فيها الى الالتزام بقرارات خلية الازمة ودعوة محبيه واتباعه الى ذلك ايضا.
بينما يبدو المشهد في إقليم كردستان شمال العراق مختلفاً قليلاً حيث أصدرت حكومة الإقليم جملة من التعليمات الوقائية، والتي يبدو ان الجهات المعنية اخذت مسوؤلية تنفيذها على محمل الجد، حيث اغلق الإقليم حدوده واوقف الحركة بينه وبين المركز بشكل جزئي كما تم تشديد الرقابة على المطاعم ومقاهي، قبل ان يتم اغلاقها بالكامل. فيما يلاحظ ان استجابة الشارع لإجراءات الوقاية شكلت عاملاً إيجابي في الحد من اخطار الوباء، رغم ان اعداد المصابين في الإقليم لا تزال مقاربة لأعداد الإصابات في المحافظات الفدرالية الأخرى.
اما في ساحات الاحتجاج، فقد اظهر المحتجون مستويات عالية من الوعي والادراك بحجم خطورة الموقف. فقد بدأوا بتطهير ساحات التظاهر بالمعقمات ونشر التوعية لبقية المحتجين بأهمية لبس الأقنعة والقفازات منعا لانتشار الفايروس داخل ساحات الاحتجاج. كما أعلنت عدة تنسيقيات ان الحركة من الساحة واليها لن تكون ممكنة خلال فترة الحظر، وان عدد قليل من المعتصمين سيبقون في الساحات خلال هذه الأيام، وكذلك تأجيل كل النشاطات الاحتجاجية لحين انتهاء الازمة. فيما يؤكد المحتجون ان احتجاجاتهم معلقة بشكل مؤقت على ان تستمر لاحقاً حتى تحقيق المطالب.
من الجدير بالذكر، ان الاعداد المعلنة للمصابين قد لا تمثل بالضرورة الاعداد الدقيقة والحقيقية على ارض الواقع، حيث ان عمليات الفحص لا يتم اجراءها الا لأصحاب الحالات المتقدمة من الإصابة، الامر الذي يعقد عملية الكشف المبكر عن الحالات، كما ان غياب إجراءات متابعة المخالطين ينفي إمكانية تأمين البيانات التقريبية المطلوبة. ويرجع سبب قلة الفحوصات المخبرية للكشف عن الفايروس نظراً لمحدودية عينات الفحص، وقلة المختبرات القادرة على القيام بهذا النوع من الفحوصات، وبالتالي ارتفاع قيمة اجراء الفحص.
رغم عدم التزام بعض مناطق بغداد والمحافظات الجنوبية بقرار حظر التجوال الا ان التكاتف الاجتماعي وحملات التوعية على السوشال ميديا وفي الميادين تلعب دوراً كبيراً للمساعدة على تجاوز الازمة. ومن ابرز النشاطات التي نظمتها مجاميع وفرق تطوعية هي حملات التعفير والتعقيم، وحملات جمع التبرعات لتوفير المواد الغذائية لعوائل الكسبة الذين يعملون باجور يومية، ولا يمكنهم العمل خلال حظر التجوال، بالإضافة الى ادعوة أصحاب المحال التجارية والمباني الى عدم اخذ اجار هذا الشهر من المستأجرين. كما وفر بعض أصحاب الفنادق فنادقهم لكي تستخدم كأماكن للحجر الصحي في حال عدم قدرة المراكز المتخصصة على استيعاب الاعداد.
بالقدر الذي نجحت هذه الازمة بإبعاد الناس عن بعضهم بالمسافات، غير انها نجحت بتقريبهم بالمشاعر، وكما هو حال التضامن الإنساني حول العالم، فأن مشاعر التضامن الوطني للعراقيين فيما بينهم تمثل المفتاح الأهم لإجتياز هذه الازمة، حيث بات يعلم الجميع ان لا طريق سوى التكاتف والتكافل والاحساس بالمسؤولية الاجتماعية، سواءاً بالمساعدة المادية او حتى بالبقاء في البيت دون الاختلاط بالاخرين.