بعد فض اعتصام ساحة التحرير، انطلاق احتجاجات أخرى للمطالبة بصرف رواتب الموظفين
“لوحات وصور الشهداء وعبارات ثورية” هو كل ما بقي في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، بعد أن قررت الحكومة إعادة فتح ميدان الاحتجاج الأبرز في العراق، والشوارع والجسور المحيطة به، ورفع خيام المعتصمين منذ أكثر من عامٍ مضى، من دون تحقيق المطلب الأبرز، المتمثل بكشف المتورطين بقتل أكثر من ٧٠٠ متظاهر وعشرات آلاف الجرحى، وتغييب عددٍ آخر من الناشطين. وبعد عامٍ على إغلاق جسر الجمهورية الرابط بين ميدان التحرير والمنطقة الخضراء المحصّنة، بدأت مساء السبت، أولى العجلات بالمرور فوقه، تزامناً مع فتح جميع الطرق المؤدية إلى “ساحة التحرير” من جهاتها كافة (باتجاه ساحة النصر جنوباً، والخلاني شمالاً، الطيران جنوباً).
قوات الأمن والجهد الخدمي التابع لأمانة العاصمة، بدأوا برفع ما تبقى من خيام المعتصمين، وتنظيف الساحة والشوارع المحيطة بها، فضلاً عن “نفق التحرير” الذي اختاره المتظاهرون ليكون “جداراً حرّاً” وثقوا على جدرانه صور رفاقهم القتلى، وصور القمّع الذي رافق حراكهم الاحتجاجي، بالإضافة إلى رسوماتٍ أخرى وعبارات تدعم ثورتهم. أمين بغداد، علاء معن، وجّه بـ: “عدم المساس بلوحات الجرافيتي” والعبارات التي سطرتها أنامل المتظاهرين في نفق التحرير، بوصفها “صفحة مشرقة من تاريخ العراق الجديد” وتعد “توثيقاً لمرحلة مهمة تسهم في نهضة البلاد” حسب بيان صحافي.
لم تمض ساعات قليلة على رفع خيام الاعتصام، حتى تجددت الاحتجاجات في ساحات التحرير. واحتشد متظاهرون، الأحد 1 تشرين الثاني/نوفمبر، تحت نصب الحرية ورددوا هتافات ضد إيران والولايات المتحدة الأمريكية. كما رفع المتظاهرون، صور ضحايا الاحتجاجات، وأكدوا استمرار الحراك حتى تحقيق مطالب تظاهرات تشرين وأبرزها محاسبة “القتلة” والكشف عن مصير المغيبين والمختطفين، وإعلان الجهات المسؤولة عن أعمال العنف. وامتزجت مشاعر الحزن والغضب لدى متظاهرين وناشطين وهم ينظرون إلى المركبات وهي تكسر حدود منطقة سقط فيها آلاف الضحايا من الشبان المحتجين على واقع البلاد على مدى أشهر، حيث وقف بعضهم لينبهوا السائقين إلى أن عجلات سيارتهم تسحق على دماء زملاء لهم. بالمقابل، قال ناشطون إن فض الاعتصام لا يعني “أبدًا” نهاية الاحتجاجات، بل العكس تمامًا، متوعدين باستمرار الحراك لحين تحقق مطالب “الانتفاضة” كما يحلو لهم وصفها.
فيما تجددت الصدامات بين القوات الأمنية العراقية والمتظاهرين في محافظة البصرة جنوبي البلاد، بعد محاولة قوات الأمن تفريق تظاهرة رافضة لمحاولات السلطات العراقية إنهاء اعتصام المحافظة في ساحة البحرية، بينما شهدت محافظات جنوبية أخرى تظاهرات منددة باستخدام القوة لإنهاء الاحتجاجات. وبينت المصادر أن قوات الأمن قامت بقطع عدد من الطرق الرئيسية في البصرة، خصوصاً تلك المؤدية إلى ساحة البحرية ومبنى الحكومة المحلية في البصرة، موضحة أن التظاهر امتد ليصل إلى منطقة جبيلة، القريبة من ساحة البحرية، التي اضطرت قوات الأمن إلى وقف حركة السيارات فيها بعد الانتشار الواسع للمتظاهرين. ووثق ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو، قالوا إنها لقوات الأمن العراقية، وهي تطلق الرصاص الحي تجاه المتظاهرين. وقال ناشطون، إن “القوات الأمنية لاحقتنا بالرصاص الحي والهراوات والعصي، وأطلقت النار علينا مباشرة، لأننا أردنا أن نستمر في تظاهراتنا بعد أن طلبت منا أن ننسحب من الساحات”.
وانطلقت مساء الأحد تظاهرة مؤيدة لاعتصام البصرة في ساحة اعتصام الحبوبي في مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار)، جنوب البلاد. وأكد متظاهرو الحبوبي تضامنهم مع احتجاجات البصرة، رافضين محاولات قوات الأمن إنهاء التظاهرات في البصرة بالقوة، وبينوا أن مظاهر الاحتجاج السلمي في الناصرية مستمرة، ولا يمكن أن تنتهي ما لم تتحقق جميع المطالب، وفي مقدمها محاكمة قتلة المتظاهرين، ومحاسبة الفاسدين. كما تظاهر مئات في مدينة السماوة (مركز محافظة المثنى)، جنوب العراق، للتضامن مع متظاهري البصرة، وفي محافظة واسط (جنوباً) انطلقت تظاهرة في مركز المحافظة (مدينة الكوت) تأييداً لاحتجاجات البصرة أيضاً. ورفض المتظاهرون أساليب القوات العراقية لفض تظاهرة البصرة.
من جانب اخر، وسط غليان وامتعاض نظم موظفو الدوائر الحكومية العراقية، تظاهرات ووقفات احتجاجية احتجاجا على عدم صرف رواتبهم المتأخرة منذ اسابيع. وخرج موظفو الدوائر في بغداد وواسط والبصرة وذي قار والناصرية والمثنى وكربلاء، بتظاهرات، فيما اكتفت دوائر اخرى بتنظيم وقفة احتجاجية امام بناياتها وحملت شعارات تطالب بإطلاق رواتب الموظفين وابعاد الملف عن الغايات السياسية. وفي بغداد خرجت تظاهرة للموظفين امام وزارة المالية لنفس السبب. وتعاني الحكومة من نقص في السيولة وتتأمل تصويت مجلس النواب على قانون تمويل العجز المالي للبدء بصرف رواتب الموظفين، بحسب مصدر في وزارة المالية علق على تظاهرات الموظفين. ويضيف المصدر، ان “الحكومة بحاجة الى نحو تريليوني دينار لسد رواتب شهر تشرين الاول الماضي، لان ايرادات النفط لا تصل لمستوى حجم الرواتب.. لا رواتب دون اقرار قانون تمويل العجز المالي من قبل مجلس النواب”. ويشير المصدر الى، انه: “في حال اقرار القانون، سيتم صرف الرواتب مباشرة”. إن تأخر دفع رواتب الموظفين لأكثر من ٥٠ يوما ينذر بخطر كبير يهدد الامن والسلم المجتمعي.
للمرة الثانية هذا العام ، طلب أعضاء مجلس الوزراء قانون تمويل طارئ لتغطية العجز في الإنفاق حتى نهاية عام 2020. وقد سعوا وحصلوا على موافقة البرلمان للحصول على قرض طارئ بقيمة 10 مليارات دولار. سيغطي هذا الحل المؤقت النفقات الشهرية للرواتب الحكومية ونفقات التشغيل، لكنه لا يفعل شيئًا لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الأزمة المالية. أحد التطورات التي قد تكون مأمولة هو تشكيل تحالف مالي دولي لمساعدة العراق على استرداد 150 مليار دولار من الأموال المسروقة من البلاد منذ عام 2003.
غير أن قادة الحركات النقابية في العراق يرسمون تصوراً مقلقاً للسنوات المقبلة، ويتوقعون ركوداً قد يستمر لمدة خمس سنوات. في الأنشطة المنسقة من قبل مركز التضامن العمالي في بغداد، تحاول النقابات أن تجعل من تحسين واقع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعراقيين خطوة مركزية بإتجاه تحقيق الإصلاح الحكومي. يصر وسام جاسب، الذي أدار عمل المركز مع النقابات منذ 2011، على أن النقابات يجب أن تناضل من أجل برامج للحد من الصدمة الاجتماعية للركود الوشيك. في البصرة، وبحسب مركز صناعة النفط، فإن البطالة قد تجاوزت نسبة 40٪ ومن المرجح أن ترتفع أكثر. يخوض العراق الآن مناقشات مع البنك الدولي للحصول على إعانة مالية في عام 2021. ويشعر جاسب بقلق عميق بشأن الثمن الذي سيدفعه المواطنون العراقيون إذا تم فرض سياسات التقشف وإعادة التعديل الهيكلي على العراق دون الاخذ بنظر الاعتبار مجمل التكاليف البشرية التي ستنتج عن ذلك.