منهاج دراسي جديد يحفظ التراث الملاحي العراقي
لم يمتلك جعفر الجوذري، عندما جاب نهر الفرات في طفولته في طرّادة جده، وهو قارب تقليدي من بلاد ما بين النهرين، أدنى فكرة أنه بعد أربعة عقود تقريبًا سينتهي به المطاف في العمل على نقل المعرفة المرتبطة بالتراث الملاحي العراقي إلى جيل جديد من طلاب الجامعات.
قال الجوذري، الأستاذ المساعد في علم الآثار الجيولوجية بجامعة القادسية، “نحن محاطون بالتراث الملاحي، فلماذا لا نقوم بتدريسه؟ نحتاج إلى تعريف طلابنا بالمزيد عن ذلك.” (اقرأ التقريرين ذو الصلة: مستقبل الآثار في العراق بعد داعش، رؤى متفائلة حول التنوع الديني في العراق).
تعتبر القوارب التقليدية مثل الطرّادة من الأيقونات التراثية في العراق وتمثل تقليدًا لحرفية بحرية استمرت في نهري دجلة والفرات منذ أقدم تاريخٍ مسجّل – حتى أدت الصراعات المتتالية على مدى العقود الأربعة الماضية إلى تمزيق مسارات نقل معارف هذه الحرف بين الأجيال ودفعها إلى حافة الانقراض.
بالنسبة للدراسات الأثرية على الأرض، لم يحظ التراث الملاحي العراقي باهتمام كبير. لكن هذا بدأ يتغير من خلال عمل أكاديميين من أمثال الجوذري، الذي يشارك في تطوير أول وحدة لمناهج التراث البحري في البلاد، والعمل الميداني لرواد من أمثال الفنان الاستكشافي العراقي الألماني رشاد سليم، الذي سعى للحصول على المعرفة والحفاظ عليها من العدد المتناقص من الحرفيين الذين ما زالوا يصنعون المراكب العراقية القديمة.
الحفاظ على الحرف التقليدية
من خلال حماية الحرف الملاحية والمعارف البيئية التقليدية، يأمل سليم في إحياء الثقافة النهرية في العراق ومساعدة العراقيين على التعامل مع جزء أساسي من ماضيهم.
على الرغم من افتتان سليم بالقوارب منذ فترة طويلة، إلا أن اهتماماته ودراساته التقت بمساره الحالي في عام 2013، أثناء مشاركته في أسطول نهر دجلة من جنوب شرق تركيا إلى أهوار جنوب العراق لزيادة الوعي بالتهديدات البيئية التي تواجه نهر دجلة.
أثناء سفره عبر النهر، لاحظ سليم كون معظم القوارب مصنوعة من معادن بدلاً من المواد التقليدية. يوضح سليم أن القوارب والحرف القديمة في بلاد ما بين النهرين قد نجت من غزوات متعددة على مدى آلاف السنين، لكن التهجير والدمار الناجم عن النزاعات الأخيرة عطّل الطرق التقليدية لتعليم هذه الحرف، التي تنتقل في الغالب من الأب إلى الابن.
قال سليم “لم يسبق من قبل أن اختفت هذه الطبقات من المعرفة، أو استخدام المواد [المحلية] … على الإطلاق. لقد كانت هذه المرة الأولى.”
بدأ سليم في تعقب آخر عدد من الحرفيين الأحياء في العراق ممن يعرفون كيفية صنع القوارب التقليدية.
من خلال إعادة بناء القوارب وورش عمل تعتمد على التاريخ الشفوي، وثق سليم ستة قوارب تقليدية، بما في ذلك الطرادة، وهي الزورق الحربي لشيوخ عرب الأهوار، والمصمم لاختراق القصب بمقدمته المنحنية العالية. شملت الأنواع الأخرى القُفّة، وهي عبارة عن سلة من اللفائف مصنوعة من القش وسعف النخيل وسيقان الرمان؛ والكلك، وهو طوف يستخدم لنقل البضائع والأشخاص؛ والمشحوف والكاية والزيمة.
مع تزايد الزخم، شارك سليم وشريكته، هانا لويس، في عام 2017 في تأسيس مشاريع سفينة العراق، التي تهدف إلى الحفاظ على التراث الحرفي العراقي المهدد بالانقراض وإحيائه، لا سيما القوارب القديمة.
قال “تطورت دراسة القوارب [دوليًا] بشكل كبير في الأربعين عامًا التي كان العراق فيها خارج الخريطة. لا يزال هناك قدر هائل من المعرفة الواجب جمعها. لقد مات بالفعل الأشخاص الذين كانوا مصادر للمعلومات الأساسية، لذلك نحن في حالة طوارئ لجمع المعلومات. … إنها الفرصة الأخيرة لاكتساب المعرفة وفهمها.”
منهاج التراث الملاحي
تعتمد وحدة مناهج التراث الملاحي التي تشارك الجوذري في تطويرها على عمل سليم الميداني. سيتم دمج الوحدة في مساق التراث للسنة الجامعية الثالثة في العراق ومن المقرر إطلاقها في الجامعات في جميع أنحاء العراق في تشرين الأول/ أكتوبر. ستغطي الوحدة جميع جوانب التراث الملاحي، من الصناعة إلى الإدارة إلى الثقافة، وستكون مصحوبة بكتاب من تأليف الجوذري وأربعة من زملائه في جامعة القادسية بمحافظة الديوانية، جنوب وسط العراق.
على الرغم من مركزية التراث البحري في ماضي العراق، ليس هناك قسم للتراث الثقافي الملاحي في البلاد، والوحدة القادمة هي الأولى من نوعها، بحسب الجوذري. قال “كان هناك القليل من التركيز على التراث الملاحي.”
يوضح الجوذري أن من بين الأسباب الرئيسية لذلك الاضطرابات التي سببتها الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وفترة العقوبات التي أعقبت حرب الخليج الأولى في التسعينيات، والغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، والصراع وانعدام الأمن الذي أعقب ذلك. ساهمت كل هذه الاضطرابات في حدوث فجوة بحثية لم يبدأ سدها إلا مؤخرًا، بدءًا من العمل الميداني الذي يقوده سليم.
مع ذلك، تمتلك معظم عائلات الطلاب روابط ملاحية بطريقة أو بأخرى، بحسب الجوذري. قال “ربما لم ينخرط الطلاب الصغار شخصيًا في هذا التراث، ولكن عندما يعودون إلى والدهم أو جدهم أو جد جدهم، فإنهم يدركون أنه جزء من ثقافتهم.”
إعادة صنع سفينة بلاد ما بين النهرين
يبدو سليم حريصًا على أن يتمكن العراقيون من الانخراط في ثقافتهم النهرية، ويوظف طرقًا مختلفة لضمان حفظ التراث الملاحي للبلاد في المستقبل.
تشمل الخطط تطوير طرق سفر القوارب للسياحة والتعليم، وجعل الواجهات المائية النهرية أكثر سهولة، وإنشاء نوادي قوارب للشباب في جميع أنحاء البلاد وتصميم إصدارات معاصرة من الزوارق التقليدية للرياضة والترفيه.
كما يتم إنشاء معرض دائم في متحف البصرة مخصص للتراث الملاحي، والذي سيعرض نماذج من القوارب التقليدية ويعرض مقاطع فيديو حول كيفية صنع القوارب. قال أحمد المعموري، مدير المتحف، إن المعرض سيشمل جزءًا من أرشيف وأعمال سليم.
في الشهر المقبل، في بينالي البندقية السابع عشر للهندسة المعمارية، سيقدم سليم مشروعه المستمر فُلك عراق الرافدين المُعاد تخيله في أول جناح وطني للعراق. سيتحدى مشروع Ark Re-imagined الاحتكار الأوروبي لأفكار وصور بناء القوارب، ويتصور صنع سفينة بلاد النهرين باستخدام التقنيات والمواد المحلية.
يأمل سليم أن يؤدي المعرض إلى مزيد من الحوار بين الثقافات وإعادة التخيل والتعلم. قال “هناك الكثير لندرسه ونتعلمه في العراق. نريد أن نكون قادرين على فتح المجالات أمام باحثين آخرين، وأشخاص آخرين للتعامل مع البلد.”