انهيار الأنبار.. جدال حول الأولويات السياسيّة والأمنيّة
بقلم مشرق عباس – موقع المونتير
يناير 3, 2014
عندما توجّه الجيش العراقي لشنّ حرب على عناصر تنظيم “القاعدة” في صحراء الأنبار على الحدود العراقيّة – السوريّة، كانت العمليّة بمثابة مناسبة لإعادة إحياء الآمال بتحقيق توافق داخلي خلف هدف محاربة التطرّف. لكن مع انتقال العمليات من الحدود إلى داخل شوارع مدينة الأنبار في أعقاب اعتقال النائب أحمد العلواني وفضّ الاعتصامات وغضب العشائر وظهور أرتال من مسلحي “القاعدة”، عاد الارتباك إلى الساحة العراقيّة من جديد وطُرحت أسئلة حول الأولويات في بلد شديد التعقيد والاضطراب كالعراق.
سلسلة قرارات سياسيّة وأمنيّة مثيرة للجدل انتهت بوقوع الأنبار تحت سيطرة عناصر تنظيم “القاعدة”… وقرار استعادة الأنبار ليس قراراً أمنياً فقط ولا سياسياً فقط وإنما يأتي بجهد أمني وآخر سياسي متزامنَين.
المشهد في محافظة الأنبار وبقيّة المدن السنيّة لم يكن مستقراً في أي من المراحل السابقة، وكانت تلك المناطق تشهد طوال السنوات العشر الماضية اضطرابات ومعارك على المستوى الأمني وهي تشدّد على تعرّضها للتهميش والإقصاء على المستوى السياسي.
وتنظيم “القاعدة” كان على الدوام سبباً رئيسياً لاضطراب المدن السنيّة ومدخلاً لتدخلات عسكريّة وحروب متواصلة واتهامات أصبحت تشكل عبئاً على السكان المحليّين الذين يشتكون من تحوّل الاتهامات بالانتماء إلى “القاعدة” إلى آلية تسقيط سياسي طاولت كبار السياسيّين ورجال العشائر والشخصيات الاجتماعيّة والدينيّة، وأنتجت بدورها أزمات عميقة.
مشهد الأنبار الأمني الأخير مع تدفّق مئات المقاتلين من عناصر “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” (داعش) إلى المدن لحرق المراكز الأمنيّة والمؤسسات، لا يبدو مشهداً غريباً. فتنظيم “القاعدة” ما زال منذ عشر سنوات يستثمر أي اضطراب اجتماعي لتوسيع نشاطه، ويستخدم العلاقات المتوتّرة بين السلطات في بغداد والمدن السنيّة كمدخل لفرض نفوذه. وأن لا يكون مشهد الأنبار الحالي “مفاجئاً”، يرتبط بدوره بجملة عوامل أبرزها:
أولاً – فشل السلطات العراقيّة طوال عام كامل في فضّ الاعتصامات التي انطلقت في المدن السنيّة بطرق سلميّة، والسكوت عن تفاقم المطالب ورفع سقوفها ومن ثم تحوّلها إلى مشكلة عصيّة على الحلّ.
ثانياً – الفشل في التعامل مع المدن السنيّة يرتبط بدوره بسوء فهم لطبيعة التكوينات القبليّة والدينيّة في تلك المدن. فصارت الاستفزازات الفرديّة ذات الطابع المذهبي التي تصدر من قبل أفراد في قوات أمنيّة وأسلوب تنفيذ الاعتقالات وواقع المعتقلين في السجون، عوامل تساعد على تكريس القطيعة بين سكان تلك المدن وبين القوى الأمنيّة والسلطات المركزيّة.
ثالثاً – لم تتّخذ خطوات سياسيّة فاعلة لتطبيع تلك العلاقة فاستمر التمثيل السياسي السنّي في الحكومة والعمليّة السياسيّة، مضطرباً ومرتبطاً بانسحابات مستمرّة وأزمات لم تتوقّف.
رابعاً – التدخّل الإقليمي في الأزمة العراقيّة عموماً وخصوصاً على مستوى النفوذ الإيراني والخليجي والتركي، كان له أثره في استمرار العلاقات المتوتّرة بين المكوّنات العراقيّة على خلفيّة التوتّر في ما بين دول المحيط العراقي نفسها.
خامساً – شكّل انفجار الأزمة السوريّة مناسبة لرفع مستوى الاحتقان السياسي والاجتماعي في داخل العراق، كذلك فإن فشل العراق في إنتاج خطاب سياسي موحّد من الأزمة السوريّة أقلّه في تبنّي الحياد الحقيقي حولها وتحصين البلاد من آثارها ساهم في توسع البيئة المساعدة على الاضطرابات داخلياً.
لكن القضيّة في الأنبار تتجاوز هذه الاعتبارات العامة التي تخصّ مجمل مشكلات العلاقة ما بين السنّة وبغداد.
فمع انطلاق عمليات “ثأر القائد محمد” الأمنيّة في 22 كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان السياق العسكري للعمليّة يشير إلى أن جوهر المعركة هو تأمين الحدود العراقيّة – السوريّة وقطع الامتداد الجغرافي لتنظيم “داعش” كهدف استراتيجي، على أن يكفل ذلك إضعاف التنظيم الممتد على جانبَي الحدود ويمهّد لعمليات تستكمل الانقضاض عليه في الداخل.
فالمعركة التي تكاد تكون محسومة لصالح الجيش العراقي، هي معركة منع المسلحين من تحويل الحدود إلى ملاذات آمنة ونقاط ارتكاز لتحويل الجهد العسكري والتسليحي ونقل المقاتلين بين جناحَي التنظيم العراقي والسوري. ومع وصول أسلحة ومعلومات أميركيّة إلى الجيش، كان النجاح في تدمير بعض المعسكرات على الحدود مؤشراً لتغيير في ميزان القوى هناك لصالح المؤسسة العسكريّة العراقيّة.
في هذه المرحلة تحديداً، أمر رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي بفضّ خيم المعتصمين ومعظمهم من قيادات العشائر السنيّة، ومن ثم داهمت قوات أمنيّة منزل النائب الذي يعدّ أيضاً زعيماً لقبيلة “أبو العلوان” أحمد العلواني وهو أحد قادة التظاهرات فجر يوم 28 كانون الأول/ديسمبر الماضي. فقتلت شقيقه وحراسه بعد مواجهات واقتادته إلى بغداد. وقد تمّ تسريب صور ومقاطع تسجيلات فيديو له.
بدا المشهد في تلك اللحظة بأنه يذهب في اتجاهات مختلفة، إذ تحوّل الاهتمام ابتداءً من ذلك اليوم عن عمليّة الصحراء المركزيّة ليتركّز على النائب العلواني الذي أثار اعتقاله غضب العشائر السنيّة. وقد بدت اللهجة أكثر تشدداً في بيان إدانة للاعتقال أصدره رجل الدين السنّي عبد الملك السعدي في اليوم نفسه، إذ دعا فيه إلى إطلاق سراح العلواني ورفض مطالبة المالكي بفضّ الاعتصامات وطالب العشائر في المقابل بالتصدي المسلح لأي محاولة لفضّ الاعتصام.
في تلك اللحظة كان السؤال المركزي المطروح سواء على المستوى الأمني أو السياسي، يتعلق بالطريقة التي ستتعامل بها الحكومة العراقيّة مع التشنّج الذي صاحب اعتقال العلواني وتمسّك العشائر ورجال الدين بالاعتصام الاحتجاجي الذي انطلق للمرّة الأولى في 23 كانون الأول/ديسمبر 2012.
الخيار الأمني كان حاضراً كما يبدو بقوّة عبر قيام القوات العراقيّة بدخول ساحة اعتصام الرمادي يوم 30 كانون الأول/ديسمبر الماضي وفضّ الاعتصام بالقوّة، ومن ثم اندلاع مواجهات واسعة النطاق مع مسلحي العشائر صاحبتها استقالات جماعيّة لممثلي السنّة في البرلمان ودعوات إلى حمل السلاح لمواجهة الجيش العراقي.
القرار الأمني الآخر الذي أثار الجدل بدوره، هو صدور أوامر سحب قوات الجيش العراقي من مدن الأنبار إلى خارجها. ومثار الجدل هو أن القرار الذي كان يشير إلى رغبة رسميّة في تهدئة الموقف المتشنّج مع العشائر، أعقبه مباشرة ظهور واسع النطاق لعناصر تنظيم “القاعدة” في داخل المدن. وقد قدم بعض هؤلاء بحسب شريط مصوّر في 29 كانون الأول/ديسمبر الماضي من سوريا يتقدّمهم القائد الميداني المعروف في “داعش” شاكر وهيب، الذي تضاربت الأنباء في ما بعد عن مقتله في خلال المعارك في الأنبار.
إن اضطراب الأوضاع وسقوط العشرات من المراكز الأمنيّة وإعلان زعماء عشائر الأنبار الذين قادوا التظاهرات ومنهم الشيخ أحمد أبو ريشة قتال تنظيم “القاعدة”، أمور أدّت إلى قرار جديد بإعادة الجيش العراقي إلى داخل مدن الأنبار لتحريرها من تنظيم “القاعدة”.
على المستوى العسكري، يمكن تأجيل تحليل طبيعة القرارات الأمنيّة التي اتخذت في خلال الأزمة ومدى نجاعتها، بانتظار إخراج تنظيم “القاعدة” من المدن. لكن على المستوى السياسي، لا يمكن تأجيل مناقشة أسلوب تعامل الحكومة مع أزمة التظاهرات السنيّة باعتبارها سبباً رئيساً لما وصلت إليه الأمور اليوم. وكتقييم أولي يمكن القول إن الحكومة فشلت طوال عام كامل في الفصل بين المعتدلين والمتطرّفين في داخل ساحات الاعتصام، ولم تفتح أبواب الحوار مع المعتدلين حتى تفاقمت الأزمة أخيراً عندما استقبل رئيس الحكومة الشيخ أحمد أبو ريشة في بغداد.
والفشل في الفصل بين العشائر التي تشعر بالإهانة أو التهميش أو تلك الواقعة تحت تأثيرات الدين والتضارب في المعلومات والأهداف، يمكنه أن يجيب عن سؤال مركزي لا يتمّ طرحه في الأوساط السياسيّة بجديّة ومفاده: هل أن آلاف المسلحين الذين ظهروا بشكل غير مسبوق في شوارع مدن الأنبار هم جميعاً تابعون لتنظيم “القاعدة”؟ المعلومات الميدانيّة المتوفّرة من داخل الأنبار تشير إلى أن تنظيم “داعش” لم يكن يضمّ أكثر من بضع مئات من المقاتلين سواء ضمن خلايا نائمة في داخل المدن أو كمسلحين منظمين في معسكرات على الحدود. كذلك تشير إلى أن الزخم الذي حصل عليه التنظيم جاء بعد انخراط مجموعات من شباب العشائر المنفعلين والمتأثرين بالفتاوى الدينيّة حول تعرّض الأنبار إلى “غزو”، في القتال إلى جانب تنظيم “القاعدة” على الرغم من عدم ارتباطهم بالتنظيم سابقاً، فيما كان بعضهم ينتمي إلى مجموعات مسلحة غير تابعة للقاعدة جمّدت نشاطاتها في خلال السنوات الأخيرة لينخرط بعض عناصرها في العمل السياسي أو الأمني أو حتى في الشرطة العراقيّة.
حلّ الأزمة في الأنبار لا يمكن أن يكون أمنياً فقط ولا سياسياً فقط. لا بدّ من تزامن ما بين الحلّ الأمني والحلّ السياسي، ما يضمن إعادة استقطاب المعتدلين من السياسيّين وزعماء العشائر وإيجاد أرضيّة مناسبة لفصل المسلحين الذين التحقوا أخيراً بـ”داعش” عن هذا التنظيم تحت رعاية قبائلهم، بالإضافة إلى الإسراع في تحقيق تعاون كامل بين أهالي الأنبار والقوى الأمنيّة لطرد التنظيم من دخل المدن والإسراع في نشر الجيش العراقي لإكمال مهمّته الأساسيّة على الحدود العراقيّة – السوريّة وكذلك فتح حوار صريح مع الواجهات السياسيّة والدينيّة والعشائريّة في الأنبار لمعالجة الأسباب التي قادت إلى الاحتجاجات وضمان عدم تكرارها.