نازحو الفلوجة: الخوف من كربلاء الشيعية ينتهي عند الحدود
نقاش | عباس سرحان | كربلاء
على طول الطريق بين الفلوجة وقضاء عين التمر، شعرت أم محمد (38 عاماً) بهواجس وأفكار مختلفة في رحلة النزوح من الفلوجة إلى كربلاء التي تشترك بحدود إدارية مع محافظة الأنبار.
لكن كل تلك الأفكار والهواجس كانت حزينة ومخيفة، فحتى الذكريات الجميلة استعادت نفسها على مخيلة أم محمد بثوب حزين هذه المرة، وللتخلص جزئياً من أفكارها وهواجسها كانت من وقت لآخر تمسح على رأسي ابنيها محمد وحنان اللذين جلسا بجانبها في سيارة التاكسي التي أقلّت الأسرة إلى قضاء عين التمر.
بينما كان أبو محمد يجلس بجوار السائق محاولاً طرد ذات الهواجس بأحاديث عابرة مع سائق التاكسي الذي حاول استجلاء صورة ما يجري في الفلوجة بأسئلته الملِّحة.
كان السؤال المحيّر المقلق يتعلق بالمستقبل القريب الذي ينتظر هذه العائلة الصغيرة المتجهة إلى كربلاء الشيعية من الفلوجة السنية، وما يثير القلق أن مشاعر الكراهية قد ازدادت في السنوات العشر الماضية وتعمقّت جذور الخلاف بين العراقيين وسالت الكثير من الدماء لأسباب طائفية.
مع بدء الأزمة الأمنية في محافظة الأنبار سيطرت جماعات مسلحة تقول الحكومة العراقية إنها تابعة لتنظيم القاعدة، بينما تقول أوساط محلية في الفلوجة والأنبار إن المسلحين من أبناء العشائر المحتجين بالسلاح بسبب سياسات حكومية مجحفة بحقهم.
وبين الروايتين سقط قتلى وجرحى واضطرت مئات الأسر إلى ترك الفلوجة والنزوح إلى مناطق تعتقد أنها أكثر أمناً.
لكن أم محمد ومعها العشرات من الأسر توجهوا إلى قضاء عين التمر التابع إلى كربلاء لأن الطريق إلى بغداد كانت مغلقة ولم يُسمح لهم بدخول العاصمة من ناحية الفلوجة، ولم يدركوا لحظة انطلاقهم إن الطريق إلى عين التمر سيكون أكثر أمناً أم لا.
وعلى مشارف قضاء عين التمر أجبرت النقطة العسكرية التي تأهب عناصرها بشكل استثنائي تحسباً لأي طارئ، أجبرت السيارة التي تقل أسرة أم محمد ومعها عشرات السيارات الأخرى على التوقف وإبراز المستمسكات الثبوتية الخاصة بكل أسرة.
سيطر الرعب على أم محمد، فهي تخشى أن تكون هذه السيطرة وهمية، خصوصاً وقد رأت قبل ساعات قليلة نزول مسلحين ملثمين في شوارع الفلوجة وقيام الشرطة المحلية بالتواري وترك اسلحتهم ومعداتهم ليغنمها المسلحون الغرباء.
وازدادت هواجسها بعد تجميع النازحين عند مدخل القضاء لبعض الوقت، فيما راح أفراد بلباس مدني يجمعون المعلومات الخاصة بهم ويتفحصون وجوههم للتأكد من صورهم الملصقة في هوياتهم الشخصية.
كل السيارات التي أقلّت النازحين عادت أدراجها باتجاه الفلوجة، فأصحابها من سكنة المناطق المحيطة بها، وظلت الأسر النازحة عند مدخل عين التمر ومعها حقائب أُعدت على عجل، حيث لم تتمكن من اصطحاب أشياءها الضرورية معها.
وعلى بعد عدة أمتار من السيطرة العسكرية وقف أبو خالد ( 47 عاماً ) برفقة اسرته، فلا يدري هو الآخر كيف ستؤول الأمور بعدما اضطر إلى ترك منزله وإن كان سيعود إلى بيته وعمله أم لا. ومع أنه يحمد الله من وقت لآخر على تمكنه من الخروج وأسرته سالمين من الفلوجة غير أنه يفكر في ما إذا كانت الأعمال المسلحة التي وقعت ستصيب منزله بالضرر والكيفية التي سيتمكن أبناؤه من إكمال مدرستهم وإن كان رحيلهم عن الفلوجة قرارا خاطئاً وغريباً.
من ناحيته لا يرى قائمقام قضاء عين التمر رائد فضال المشهداني لجوء النازحين إلى عين التمر قراراً غريباً أو خاطئاً، وقال لـ”نقاش” لم نشعر بالاستغراب من لجوء عائلات من الفلوجة إلى قضاء عين التمر، فالعديد من الأسر النازحة تربطها علاقات قرابة مع أسر تسكن القضاء”.
ويعتبر المشهداني قيام الأهالي في عين التمر بفتح أبوابهم أمام النازحين دليلاً قاطعا على قوة الأواصر التي تربط أبناء الشعب العراقي فيما بينهم.
وبعد انتهاء الإجراءات الأمنية الخاصة بالتأكد من المعلومات الشخصية للنازحين تم السماح لهم بدخول قضاء عين التمر، حيث قُدمت لهم مساعدات عينية من الأهالي والمنظمات الحكومية وغير الحكومية المتواجدة في القضاء.
وتم استقبال عائلة أبو محمد على مدى يومين من قبل أسرة شيعية في قضاء عين التمر، وشعرت ام محمد للوهلة الأولى أنها قد تواجه واسرتها بعض المصاعب والمخاطر أيضا لأنها مازالت خائفة من طغيان المشاعر الطائفية على مضيفيها خصوصاً وأن جهاز التلفاز الذي يجتمع حوله الجميع يبث مشاهد لقتلى وعمليات مسلحة كما يبث تصريحات لمختلف الأطراف والجهات ينطوي معظمها على الكراهية ويحرض على العنف.
لكنها واسرتها بدأوا يشعرون تدريجياً أن مضيفيهم لا يختلفون عن جيرانهم في الفلوجة، خصوصاً وقد راحوا يبثونهم عبارات التطمين ويشرحون لهم أهمية أن يعيش الجميع بسلام.
للمرة الأولى شعرت أم محمد أن الصحراء الواسعة المحيطة بقضاء عين التمر ربما تكون آمنة أكثر من أية مدينة أخرى يسيطر عليها المسلحون ويحاصرها الجيش بالدبابات.
وفي اليوم الثالث من مكوثها في قضاء عين التمربدت أم محمد مترددة ايضا في الاستجابة للدعوة التي وجهها وفد يمثل العتبات الدينية في كربلاء لاستضافة النازحين من الفلوجة في مدينة الزائرين إلى الجنوب من كربلاء وهي مدن مخصصة لاستضافة الوفود من الزوار الأجانب وقد شيدت في السنوات القليلة الماضية وفق أحدث التصاميم وتضم خدمات ممتازة.
وبعد أن تم جمع النازحين في قاعة كبيرة، عرض عليهم وفد يمثل العتبات الدينية في كربلاء رغبة المرجعية الدينية العليا باستضافة النازحين، وراح الوفد يشرح للنازحين وبحضور مسؤولين محليين من قضاء عين التمر تهيئة مدينة الزائرين لاستقبال النازحين وقد هيأت العتبات الدينية حافلات خاصة لنقلهم الى هناك.
تقول أم محمد إنها” شعرت بالقلق للوهلة” وعللت مخاوفها بكثرة ما كانت تسمعه حول سيادة مشاعر الكراهية الطائفية في العراق.
وقالت “كنت مترددة أولاً وهذا حال كثير من النازحين، لكننا لمسنا في أحاديث أعضاء الوفد الصدق والحرص على مساعدتنا، فذهبنا معهم”.
وما زالت أم أحمد وأبو خالد ونحو 350 نازحا يسكنون في مدينة الزائرين بكربلاء، وتقول إنها” تلقى عناية كبيرة وتجد المكان المناسب لراحتها وراحة أولادها وقد غادرتها كل المخاوف والهواجس التي كانت تشعر بها قبل”.
لكنها ورغم ذلك ما زالت تنظر إلى المستقبل بترقب ولا تدري هل ستتمكن من العودة ثانية إلى منزلها وجيرانها في الفلوجة أم إن الأوضاع هناك ستتفاقم أكثر.