الانتخابات العراقية في ثلاث صور
المصدر: نقاش
غطى محررو “نقاش” الإنتخابات العامة العراقية في جميع أنحاء العراق يوم أمس، وكتبوا عن تجاربهم العملية كصحفيين محليين ورصدوا مجموعة من المشاهدات كما كتبوا عن بعض الصعوبات التي واجهوها في تغطية التصويت بسبب القيود المفروضة على الصحافة المحلية.
في بغداد، كانت الإجراءات الأمنية مشددّة واضطر الكثيرون من السكان المحليين إلى التصويت في وقت متأخر من اليوم ليتجنبوا إمكانية تعرضهم لهجمات أثناء استهداف مراكز الاقتراع، حيث نقل المحرر العربي هذه الصورة من بغداد.
إجراءات مشددّة والأطفال شاركوا الناخبين بتلوين أصابعهم
كانت الشوارع صامتة والأهالي يغطون في نوم عميق فيما توجه بعض الأشخاص راجلين إلى مراكز الأقتراع القريبة من منازلهم للإدلاء باصواتهم معظمهم من الشباب تحركهم الرغبة في التغيير.
” نماولت فطوري وغيرت ملابسي وغادرت مع بطاقتي الالكترونية ومستمسكاتي الرسمية إلى المدرسة القريبة من بيتي لأصوّت لشخص آخر غير الذي اخترته قبل أربع سنوات” يقول أحمد سعدي الشاب الذي سار بجانبي مع اثنين من افراد عائلته لأكثر من نصف ساعة قبل أن يصل إلى مركز الاقتراع.
أحمد رافق زوجته ووالدته إلى المكان على أن يقوم والده وشقيقته بالتوجه سوياً إلى محطات الاقتراع بعد عودته إلى المنزل.
المركز كان مدرسة في حي العامل انتشر بالقرب منها مجموعة من عناصر الأمن الذين نظموا دخول الناس إلى المكان بعد تفتيش الرجال وتحويل النساء إلى كابينة صغيرة بابها الضيق مغطى بقطعة قماش تم تخصيصها لتفتيش النساء جلست فيها سيدتان كانتا تتناوبان على تفتيش الناخبات الداخلات إلى المكان واللواتي يغادرن من الباب الخلفي ويدخلن إلى مركز الاقتراع.
الدخول إلى محطات الاقتراع في ذلك المركز ليس سهلاً بالنسبة للصحفييين ويتوجب إبراز عدد من الهويات الخاصة بالعمل الصحفي قبل ان يسمحوا لي بالتواجد قرب المركز وطرح الأسئلة على الأهالي لكن الدخول إلى داخل محطات الاقتراع تطلّب وقتاً طويلاً بعدما وعدتهم بأن أقف كمتفرجة وان أسمع فقط ولن اطرح اية أسئلة على الناس.
أحد الأهالي دخل مبتسماً وسلّم بحرارة على جميع الموظفين قبل أن يخرج بطاقته الألكترونية ويستلم استمارة التصويت ويتوجه إلى محطة الاقتراع ليدلي بصوته وبعد خروجه من المكان وضع بطاقته داخل الصندوق وقال بصوت عال وهو مازال يحافظ على ابتسامته “العام الماضي كنت خارج بغداد ولم أتمّكن من التصويت واليوم جئت لأصوِّت أملاً في تغيير الوجوده الموجودة على الشاشة والتي لم نكسب منها سوى التصريحات والوعود الكاذبة” ابتسم بعض الموظفين بلطف وصمت آخرون.
أحد الأجهزة في المكان توقف بشكل مفاجئ ولم يعد قادراً على قراءة البطاقات الألكترونية ولحسن الحظ أن هناك جهازاً آخر في المكان ى ذاته عوّض عن العطل.
سيارات الشرطة التي كانت تسير في شوارع بغداد كانت تساعد في نقل النساء والمسنين والمعاقين الذين اشتركوا في التصويت وساعدتني أنا أيضا في الوصول إلى مركز إقتراع آخر سمحت المفوضية فيه للصحفيين بالتغطية.
في الدورتين الانتخابيتين الماضيتين كانت هناك مظاهر سائدة لدى بعض الناخبات من النساء إذ كان بعضهن يطلقن الزغاريد عند وصولهم إلى محطات الاقتراع لكن هذه الظاهرة اختفت هذا العام وبدت النساء تسير بثقة أكبر لكن من دون التفاخر بالتصويت فربما كانت تجارب الناس مع الوضع العام الذي بقي على حاله في السنوات الماضية سبباً في ذلك.
أحد الاطفال الصغار الذين رافقوا أمهاتهم إلى مركز الاقتراع صرخ باكياً حينما شاهد والدته تغمس أصبع السبابة في حبر الانتخاب بعدما أدلت بصوتها وقال “اريد تلوين أصبعي مثلك” فاضطرت الموظفة التي تجلس قرب الحبر إلى تلوين إصبعه لإسكاته.
شوارع بغداد الصامتة في الصباح الباكر شهدت تحركاً أكبر للأهالي بعد منتصف النهار وهي حالة طبيعية في العاصمة فالكثيرين من الناخبين يخشون من استهداف مراكز الأقتراع فيتوجهون إليها بشكل متأخر كما إن الرفع الجزئي لحظر التجوال قبل إغلاق صناديق الاقتراع بساعتين ساهم في تشجيع الكثيرين على استخدام سياراتهم الخاصة في الوصول إلى المراكز لاسيما اولئك الذين يسكنون في مناطق بعيدة عن مراكز اقتراعهم.
في طريق عودتي إلى المنزل كانت عائلة أبو جلال تتوجه من مدينة الحرية إلى حي القاهرة شمال بغداد بسيارتها الخاصة للتصويت في المركز الذي تم تحويلهم إليه.
قال أبو جلال الذي بدا متحمساً للتصويت ” نحن نسكن مدينة الحرية لكننا نصوِّت في حي القاهرة لأن بطاقتنا التموينية هناك، وفي كل عام نتوجه إلى هناك بعد رفع حظر التجوال الجزئي لأن السير إلى مركز الاقتراع يتطلب منا ثلاث أو أربع ساعات على الأقل”.
دق جهاز هاتفي النقال حينما أكمل ابو جلال جملته وكان المتصِل أحد الزملاء الصحفيين حيث بادرني بالسؤال ” هل أدليتي بصوتك، أجبته : لا لأن المركزين المخصصين لاقتراع الصحفيين يقعان في جانب الرصافة وأنا اسكن في الكرخ وقضيت يومي في السير نحو مراكز الاقتراع.
أجابني : انا ايضاً لم افعل للسبب ذاته.
في كردستان: الفيسبوك يعرض أصوات الناخبين
في كردستان العراق كان “الهاكرز” أو اللصوص الألكترونيين أكبر مشكلة في هذه الانتخابات إذ فتحوا صفحات للدعاية الانتخابية. ولأول مرة، بدأ الناخبون الأكراد وأصحاب الحملات الإنتخابية بإستخدام الفيسبوك بشكل مرّكز وصوروا أوراق الإنتخاب ونشروها على صفحاتهم، حيث كتب زانكو أحمد محرر اللغة الكردية عن مشاهداته التي قال فيها:
كان الكثيرون من زملائي يسارعون للوصول إلى مراكز الاقتراع من أجل تغطية تصويت الشخصيات المشهورة ورؤساء القوى السياسية في الإقليم إلا أنني وعدد من زملائي فضّلنا التصويت أولاً لأن السياسيين ربما لن يكون لديهم رسائل مختلفة عن السابق.
كما اننا شاهدنا على شاشات القنوات التلفزيونية لاحقاً قادة تلك القوى وهم يدخلون في الساعات الأولى من بدء الانتخابات إلى مراكز الاقتراع ويدلون بأصواتهم ويحثون المواطنين على المشاركة في العملية كما تبادلوا بعض الرسائل الشفوية حول تشكيل الحكومة.
وصلت مع اثنين من زملائي قبل دقائق من الساعة الثامنة صباحاً إلى المركز الذي كنّا سنصوت فيه، كانت مراكز التصويت تبدو من بعيد خالية بخلاف المرات السابقة وربما كان السبب في ذلك هو مرور أكثر من سبعة أشهر على الانتخابات البرلمانية في كردستان دون أن يقطف الناس ثمارها بعد.
عملية التصويت كانت تمر ببطئ والسبب في المشكلة هو جهاز قراءة البصمة الألكتروني الذي لم يكن قادراً على قراءة بصمة المسنين.
أما خارج مراكز الاقتراع فالحملة الدعائية كانت مستمرة على الرغم من توقفها رسمياً قبل 24 ساعة من عملية التصويت وقد شُوهد ممثلو الكيانات السياسية قرب مراكز الاقتراع وهم يوزعون بطاقات مرشحيهم وقوائمهم.
وبعد التصويت غادرنا بسرعة إلى المراكز التي تم فتحها لتغطية الصحفيين وعددها خمسة مراكز بحسب قرار المفوضية العليا للانتخابات، كان الصحفيون يشتكون من عدم تمتعهم بالحرية في تغطية عملية التصويت وصعوبة وصولهم إلى مراكز الاقتراع فيما كانت المفوضية تقول انها اتخذت ذلك القرار بهدف تنظيم تلك العملية.
المشكلة الأخرى التي اعترضت الصحفيين هي تعرض معظم المواقع الالكترونية المعروفة في الإقليم لهجمات الكترونية من قبل مصادر مجهولة وتعطيلها حتى وصل الأمر إلى قرصنة بعض المواقع ونشر أخبار فيها ضد الأطراف الأخرى من قبل القائمين بالهجوم.
ولم يجد صحفيو المواقع الالكترونية طريقا آخر للدعاية سوى اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي حيث كان معظم المواقع التي تم تعطيلها تنشر أخبارها ومعلوماتها عن طريق صفحاتها على موقع الفيس بوك الذي بات مكاناً لنوع آخر للاستعراض السياسي فقد ظهرت لأول مرة خلال هذه الانتخابات عادة جديدة بين المشاركين في الفيس بوك وهو تصوير بطاقة التصويت ونشرها على مواقعهم.
ولأن استعمال الهاتف المحمول لم يكن ممنوعاً في معظم المراكز فقد كان الناخبون يأخذون معهم هواتفهم المحمولة إلى داخل مقصورة التصويت ويؤشرون على قوائمهم ثم يصورونها وينشرونها بسرعة على الفيس بوك وكانوا يكتبون تحتها “ادليت بصوتي فأسرع أنت أيضاً وصوِّت للجهة الفلانية”.
لم تظهر مشكلات كبيرة في مدن إقليم كردستان الثلاثة على الرغم من إن معظم الأطراف سجلت شكاوى لكن تلك المشكلات بدأت بالظهور بعد الساعة السادسة حينما انتهت عملية التصويت وخرج أنصار الأطراف السياسية إلى الشوارع وبدأوا احتفالات الفوز وأطلقوا الرصاص في الهواء.
في برلين «تفاؤل حذِر»
في برلين، حيث تقع المكاتب الإدارية لـ “نقاش”، فقد عملنا على مراقبة تغطية الصحافة الغربية لهذه الانتخابات والتي قامت بها كاثرينشاعرمحررة اللغة الإنجليزية وكتبت هذه السطور عنها:
تقول معظم وسائل الإعلام الغربية أن الانتخابات العامة التي جرت يوم أمس في العراق تمت وسط أجواء تنذر بالتشاؤم، فالانقسامات الطائفية تتفاقم، والقنابل تنفجر في الشمال والجنوب والوسط، والبلاد على وشك الإنقسام أو الذهاب إلى حرب أهلية أو السقوط تحت سيطرة تنظيم القاعدة – أو ربما إيران. حسنا، ربما يحدث كل ذلك أو أي منه.
ومع ذلك كان هناك بعض المراقبين العراقيين الذين يراقبون الأوضاع منذ زمن والذين كانوا متفائلين ولكن بحذر.
أين تكمن الحقيقة إذاً؟ الحقيقة هي في مكان وسط ما بين التفاؤل والتشاؤم، فإذا كنت جالساً في مكتب “نقاش” في وسط أوروبا يوم أمس حيث جرت الانتخابات في العراق، ستعتمد نظرتك التشاؤمية والتفاؤلية إلى حد كبير إذا كنت قد شربت أول فنجان قهوة لك أم لم تشربه بعد، بمعنى أن مزاجك هو الذ سيحدد مدى تقاؤلك أو تشاؤمك.
صحيح أنه على مدى السنوات الثلاث الماضية، قام رئيس الوزراء العراقي الحالي، نوري المالكي بفعل الكثير من الأشياء الفظيعه التي جعلته يبدو وكأنه يعمل على توطيد السلطة السياسية في البلاد تحت سقف واحد، سقفه هو، وصحيح إن حلفائه والذين أصبح معظمهم اليوم حلفاء سابقين – وصفوه بأنه ديكتاتور في أسوأ الأحوال وسلطوي في أحسنها، وصحيح أيضاً إن أجزاء كبيرة من محافظة الأنبار غرب العراق ومعظم سكانها وهم من المسلمين السنة يعيشون حالياً حالة من الفوضى العنيفة.
وصحيح أيضا أن العديد من المسلمين السنة في تلك المناطق لم يكونوا قادرين على التصويت في الإنتخابات التي جرت يوم أمس وأن الجماعات المتطرفة ما زالت تقتل أعداداً متزايدة من المدنيين العراقيين على أساس مستمر.
ولكن هناك حقيقة عبّر عنها المحللون السياسيون المخضرمون من أمثال رايدر فيسر وأكد فيها وجود بعض الأمور الإيجابية التي تحدث داخل هذا التشابك السياسي في العراق.
الرسائل السياسية الطائفية التي شهد العراق كثيراً منها في الماضي والتي هي ربما نتيجة طبيعية لعقود طويلة من اضطهاد صدام حسين لطائفة واحدة بعينها، وكذلك نتيجة لنموذج تكتيكية القائم على فكرة “فرق تسد” أختفت وهدأت اخيراً.
أما حلفاء المالكي الذين هم من طائفته فقد تخلى الكثيرون منهم عنه وبدأوا بإطلاق حملات خاصة بهم يدفعهم إلى ذلك ما يعتبرونه سوء إدارته للبلاد.
زعيم تحالف “المواطن” عمار الحكيم وهو أحد الأحزاب الإسلامية الشيعية الرئيسية، بقيادة المجلس الأعلى الإسلامي في العراق، قال مؤخراً إن حزبه يهتم بإطلاق حملات لمكافحة الفساد أكثر من اهتمامه بمواضيع أخرى.
وبعد انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، التي جرت في أوائل عام 2013، عملت العديد من الأحزاب الشيعية الرئيسية على تشكيل تحالفات مع السياسيين المسلمين من السنة، ويُظهر كل ذلك إن أفعال السياسيين في العراق أصبحت أكثر أهمية – أو ربما على نفس القدر من الأهمية – من انتماءاتهم الدينية.
لكن لا توجد استطلاعات للرأي فى العراق، لذلك فمن الصعب معرفة ما إذا كانت هذه الإشارات المشجعة الصغيرة قد يترجمها الناخبون أيضاً في القرارات التي اتخذوها يوم أمس.
الروايات المتناقلة تؤكد إن معظم أبناء الطبقة الوسطى العراقية على ما يبدو يريدون العيش في سلام مع جيرانهم بعد كل هذه السنوات من الإرهاب والعنف، فهم يريدون كسب لقمة العيش الكريمة ويريدون أن يعلموا أبنائهم وأن يحصلوا على ساعات أكثر من الكهرباء يومياً عندما ترتفع درجات الحرارة ولا يريدون أن يعيشوا حالة خوف من السيارات المفخخة في كل مرة يخرجون فيها للتسوق.
إنهم يريدون أن تؤثر عائدات النفط المتزايدة في البلاد تأثيراً مفيداً على حياتهم اليومية بغض النظر عن الطائفة التي أتوا منها، أو الطريقة التي يقدم بها المالكي نفسه “كزعيم قوي في هذه الأوقات من المتاعب”، فإنهم على الأرجح يعلمون أيضاً أن هذه الحكومة الأخيرة لم تقربهم خطوة واحدة بإتجاه تحقيق تلك الأهداف.
الشيء الآخر الذي يستحق النظر هو أنه على الرغم من أن العراق لا يزال خطيراً وبطرق عديدة، بلداً محافظاً للصحفيين، إلا أنه من الممكن أيضاً لهم أن يعربوا عن آرائهم الآن بطرق لم تكن واردة على الإطلاق قبل بضع سنوات.
كصحفيين، نعرف نحن أنفسنا أن مثل هذا الفارق البسيط في الرأي حول الانتخابات العامة في العراق، لا يمكن أبداً التعبير عنه في عنوان واحد – فبعد كل شيء، لا تترك العناوين مجالاً كبيرا للتعبير. ولكننا نأمل أن تتطور هذه الإشارات الصغيرة والهامشية في الأيام المقبلة، مع كل الخلافات السياسية التي ستنطوي عليها بدون شك، لتصبح في نهاية المطاف العناوين الوحيدة في العراق.