الرشوة والفساد ينخران في المجتمع والدولة في العراق
العراق، بغداد – المونيتر
ببراءة تثير الاستغراب، حدّث المواطن علي السلطاني من بابل (100 كلم جنوبي بغداد)، “المونيتور” في 15/ 8 في بابل عمّا يفعله إذا ما أراد إنهاء معاملة رسميّة في دوائر الدولة، وقال: “غالباً ما أصطحب معي مبالغ ماليّة، وأعطيها إلى الموظّفين في الدوائر الرسميّة الّتي أقصدها لأجل تسهيل معاملاتي الرسميّة مثل تحويل عقار أو الحصول على بطاقات أحوال مدنيّة لأولادي أو تعديل درجاتهم المدرسيّة”.
لا يسميّ علي السلطاني ما يفعله “رشوة”، بل يقول: “إنّه تكريم للموظّف لأنّه قدّم إليّ مساعدة خاصّة”. ومن الواضح أنّ الرشوة مخجلة أخلاقيّاً ، فضلاً عن أنّها سلوك مناف للقانون والأعراف الإجتماعيّة والدينيّة في العراق. ومن هنا، يجري استبدال الكلمة الحقيقيّة بكلمات أخرى ، تيسّر هذا العمل.
وفي هذا الإطار، أشار الباحث الإجتماعيّ علي الخفاجي في حديثه لـ”المونيتور” إلى أنّ “الرشوة باتت أمراً عاديّاً يتغطّى بتبريرات أو يجري بترتيبات متنوّعة”، وقال: “إنّ الكثير من العراقيّين اعتادوا زيارة الموظّف المرتشي في بيته أو في مكان يتّفق عليه بهدف تسليمه العمولة الماليّة ليختصر الإجراءات الإداريّة ويذلّل العقبات القانونيّة”.
وقال مواطن في بابل، رفض الإفصاح عن اسمه، لـ”المونيتور”: “حصلت على إجازة قيادة السيّارة وأنا جالس في بيتي، بعد أن دفعت 6 مئة دولار لموظّف في شرطة المرور”.
وما تطرّق إليه المتحدّث الأخير، أكّدته “هيئة النزاهة” في بيان صدر عنها في الأوّل من شباط/فبراير 2015، جاء فيه: “إنّ دوائر بغداد المتخصّصة بإصدار إجازات سوق دوائر بغداد تتصدّر تعاطي الرشوة. وهناك مؤشّرات إلى تعاطي الرشا في عموم دوائر الدولة تتخطّى الـ3 في المئة من مجموع ما ينجز من معاملات ادارية”.
والتقى “المونيتور” عبر وسطاء موظّفاً متقاعداً طلب منه، على سبيل الاختبار، أن يساعده في الحصول على وثيقة جواز سفر، فأبدى استعداده، طالباً 400 دولار لـيوفّر له “عناء الانتظار لأشهر، فضلاً عن متاعب المراجعات”.
“الأمر عاديّ… الأمر عاديّ”، فهذا ما ردّده لـ”المونيتور” الإعلاميّ علاء كولي، الّذي قال شارحاً: “إنّ الرشوة باتت هي المحرّك الأساس للتّعاملات في دوائر الدولة، ولم تعد أمراً مخجلاً أو عيباً إجتماعيّاً”.
ويعود السبب في رأيه إلى “غياب المساءلة القانونيّة”، مشيراً إلى أنّ “الجميع يتعاطى في الرشوة حتّى رجال الأمن والقانون، الّذين يقع على عاتقهم محاربتها”.
وأكّد هذه الحقيقة لـ”المونيتور”، مرّة أخرى، الكاتب والمحلّل السياسيّ علي مارد الأسدي قائلاً: “إنّ “الرشوة تحوّلت في العراق إلى ما يشبه الثقافة العامّة، لكن تحت مسمّيات “الهدية” و”التكريم” الّتي قلّ أن تجد من ينكرها أو لا يمارسها، لا سيّما بعد عام 1990 عندما انهارت رواتب الموظّفين، إثر غزو الكويت في عام 1990 وفرض الحصار الإقتصاديّ على البلاد طيلة عقد التسعينيّات”.
تستفحل الرشوة إلى ما يشبه النّظام، فمن جهة يستغلّ موظّفون ومسؤولون مراكزهم الوظيفيّة والسياسيّة لجني الأموال بطرق غير شرعيّة، ومن جهة هناك اضطرار لدى المواطنين، الى اللجوء الى الرشوة فما الّذي يفعله مواطن أعزل تتوقّف معاملته المشروعة عند تواقيع موظّفين؟
وفي هذا السّياق، أشار سعيد حسن، وهو المعلّم في بابل، لـ”المونيتور” إلى أنّه لم يملك غير أن يغري موظّفاً في دائرة العقار برشوة ماليّة لينجز له معاملة عقار اشتراه.
وفي الواقع، يبدو أنّ الرشوة في دوائر العقار مستفحلة. وفي هذا المجال، كشف تقرير لـ”هيئة النزاهة” في 5 ديسمبر/كانون الأوّل من عام 2014، أنّ “الهيئة العامّة للضرائب في محافظة النّجف تصدّرت قائمة الدوائر الأكثر تعاطياً للرشوة في العراق”.
ولعلّ ظاهرة الرشوة قديمة في المجتمع العراقيّ والدول العربيّة، وكانت سبباً في ثورات الرّبيع العربيّ، إلاّ أنّها استفحلت في السنوات الأخيرة حتّى باتت مرضاً على حدّ تعبير الناشط المدنيّ والإعلاميّ حسنين علي، الّذي قال لـ”المونيتور”: “إنّها مرض في بنية المجتمع العراقيّ، وصل حتّى إلى سكرتير الطبيب في عيادته الخاصّة، فبمجرّد التّلويح له بمقدار من المال، يقدّم موعدك للدخول إلى الطبيب، ويختصر لك ساعات الانتظار الطويلة”.
ولأنّ الرشوة مرض اجتماعيّ، قال حسنين علي: “إنّ علاجه يكون عبر التربية الإجتماعيّة لخلق جيل جديد مجبول بالأخلاق الإنسانيّة”.
ومن جهته، عوّل رجل الدين محمد الياسري من بابل في حديثه لـ”المونيتور” على “تعزيز دور الدين في المجتمع للجم الفساد والرشوة”، داعيا الخطباء في المساجد إلى “التّعاون بين أفراد المجتمع والتّأكيد أنّ الله قد حرّمها. كما أنّها تسبّب بانهيار المجتمعات”، وقال: “تعدّ الرشوة في الدين الإسلاميّ من كبائر الذنوب، ومن يتعاطاها ملعون من الله”.
ومقابل هذا، فإنّ قانون العقوبات العراقيّ رقم (111)، يعاقب مرتكب الرشوة بالحبس مدّة قد تصل إلى عشر سنوات.
لقد عمّت التّظاهرات في أنحاء البلاد، منذ 9 آب/أغسطس الماضي، مندّدة بفساد السياسيّين والمسؤولين. وفي انتظار أن تضغط هذه التّظاهرات على السياسيّين وتنعكس على الآداء الحكوميّ، رأى الكاتب والناشط المدنيّ هادي الحسيني في حديثه لـ”المونيتور” أنّ “هذه التّظاهرات لن تقضي على الفساد، وفي مقدمة ذلك الرشوة، لأنّ الجميع يمارسها، وأوّلهم المسؤولون الكبار الّذين يبيعون ويشترون في المناصب الوزاريّة والأخرى المهمّة”.
على ماذا يعوّل العراقيّون إذن؟ مبدئيّاً، يمكن القول إنّ تحسين معيشة الفرد وتطبيق العدالة الإجتماعيّة والمباشرة بإصلاح سياسيّ ومحاسبة الراشي والمرتشي، ستكون الخطوات الأولى في القضاء على هذه الظاهرة الّتي تنخر في بنية المجتمع العراقيّ وحوّلته إلى غابة يأكل فيها القويّ الضعيف.