أبو مهدي: الآن يبدأ العمل الحقيقي بالنسبة إلى بغداد وإربيل!
أعرف عبد المهدي منذ وقت طويل، ويمكنني أن أشهد على أنه الأقرب إلى الأكراد بين كل السياسيين العرب في العراق. فالصداقة الحميمة والوثيقة التي تجمعه بجلال طالباني، رئيس كردستان العراق سابقاً، والتي نشأت خلال وجوده في المنفى في دمشق في عهد صدام حسين، تجعل منه الشخصية التي لا غنى عنها في نظر إربيل لتولّي وزارة النفط العراقية. وقد روى لي عبد المهدي: “قال لي مسعود البارزاني إنهم إذا لم يتمكّنوا من الاتفاق معي، فعلى الأرجح أنهم لن يتمكّنوا أبداً من الاتفاق مع أي طرف آخر في بغداد”.
لطالما تمتّع عبد المهدي بفكر استراتيجي، وقد تكوّن لديه رصيد هائل من المعارف والخبرات حول شؤون المنطقة منذ ستينيات القرن العشرين. ينتمي هذا الفرنكوفوني الذي يتحدّث الإنجليزية بطلاقة إلى فئة المثقّفين من الوزن الثقيل منذ عرفته في بيروت في السبعينيات.
بدا لي، من الكلام الذي سمعته منه، أنه ثمة حظوظ بالتوصّل قريباً إلى اتفاق نفطي بين بغداد وإربيل، لكنه ظلّ حذراً. فبعد بضع ساعات، كان سيجلس لإجراء مفاوضات صعبة مع نيجيرفان بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، ونائبه قوباد طالباني، نجل الرئيس العراقي السابق، وآشتي هورامي، وزير النفط في حكومة إقليم كردستان الذي يتمتّع بكفاءة عالية جداً.
وقد اعتبر عبد المهدي أن الاتفاق النفطي المؤقّت الذي جرى التوصّل إليه مع الأكراد في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي كان بادرة حسن نية من الأكراد تجاهه شخصياً، من أجل تعزيز حظوظ حكومة العبادي. بموجب الاتفاق، وافق الأكراد على تصدير 150000 برميل من النفط يومياً إلى حكومة بغداد. وقد قال لي عبد المهدي: “الآن سوف ننتقل إلى الأمور الجدّية. أصبحت بوادر [حسن النية] وراءنا. لن يكون سهلاً التوصل إلى اتفاق”.
غداة عودة عبد المهدي إلى بغداد، وقعت عيناي على عنوان رئيس في الصفحة الأولى في صحيفة “وول ستريت جورنال” في ردهة الفندق حيث كنت أقيم في بروكسل: “العراق وكردستان يتوصّلان إلى اتفاق نفطي”. وقد ورد في الفقرة الأولى من المقال: “أبرمت الحكومة العراقية يوم الثلاثاء [2 كانون الأول/ديسمبر الجاري] اتفاقاً لتصدير النفط مع إقليم كردستان الشمالي، ما يضع حداً لمأزق سياسي مستمر منذ سنوات كاد يتسبّب بإفلاس الحكومتَين، كما أنه عرقل الجهود الهادفة إلى مواجهة تمرّد الدولة الإسلامية”.
سيدخل الاتفاق الجديد حيّز التنفيذ في الأول من كانون الثاني/يناير 2015، وبموجبه سيقوم كردستان العراق بتصدير 250000 برميل من النفط يومياً إلى بغداد، فيما تصدّر كركوك الخاضعة حالياً للسيطرة الكردية، 300000 برميل يومياً. في المقابل، يُخصَّص 17 في المئة من نفقات الموازنة العراقية لحكومة إقليم كردستان، وتُسدّد بغداد حصة إقليم كردستان في الموازنة التي تحتجزها منذ مطلع العام 2014، والتي تبلغ نحو عشرة مليارات دولار. فضلاً عن ذلك، على وزارة الدفاع العراقية تسديد دفعات شهرية مباشرة إلى قوات البيشمركة لتغطية نفقاتها في القتال الذي تخوضه ضد عناصر الدولة الإسلامية.
يحظى الاتفاق بالترحيب من مختلف الأطراف في الطيف السياسي العراقي باعتبار أن كلاً من بغداد وإربيل خرج منه منتصراً. قبل الاتفاق، كانت تركيا قد فرضت نفسها في موقع المنفذ الوحيد لتصدير النفط من كردستان العراق. وقد أنشأ الأكراد شركة جديدة تحت مسمّى “مؤسسة تسويق النفط الكردستاني” لتصدير النفط عن طريق تركيا. وشهدت المحطة التركية على ضفاف المتوسط حركة كثيفة في الأشهر الماضية لتفريغ النفط الكردي في ناقلات كانت تُبحر حول العالم بحثاً عن شارين.
ينص الاتفاق بين بغداد وإربيل على تصدير النفط الكردي عن طريق “مؤسسة تسويق النفط العراقية” التي تُعتبَر الشركة النفطية الوطنية في العراق. وقد رأت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن هذا البند “يشكّل انتصاراً للحكومة المركزية في العراق التي لطالما سعت إلى ممارسة سيطرة أكبر على الصادرات والإيرادات النفطية الكردية”. بناءً عليه، لن يتم بعد الآن إيداع أموال الصادرات النفطية الكردية في مصرف “هالك بنك” المملوك من الدولة التركية، بل سيتم تحويلها إلى حساب مشروط في نيويورك.
إن كان هناك من فريق خاسر في الاتفاق النفطي بين بغداد وإربيل، فلا شك في أنه أنقرة، على الرغم من أنه يجب توخّي الدقة في تحديد طبيعة الخسارة. فهذه ليست هزيمة، نظراً إلى أن أنقرة لم تعلن قط معارضتها للتوصّل إلى اتفاق بين بغداد وإربيل. كل ما في الأمر أنها خسرت علاقتها الحصرية مع أكراد العراق. إلا أنه بإمكان تركيا أن تمتصّ هذه الخسارة للحصرية ما دامت تقتضي أيضاً تأجيل التطلعات الكردية إلى إقامة دولة مستقلة، وهذا مناسبٌ لأنقرة التي تخشى قيام هذه الدولة.
اللافت هو أن الاتفاق بين بغداد وإربيل تزامن مع انهيار مشروع “ساوث ستريم” الطموح الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي لطالما كان موضع تبجّح شديد، وكان الهدف منه نقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا الوسطى بواسطة خط أنابيب يمر تحت البحر الأسود.
قبل أن يجف حبر الاتفاق النفطي العراقي، أعلن بوتين – في مؤتمر صحافي عقده في أنقرة مع رجب طيب أردوغان في الأول من كانون الأول/ديسمبر الجاري – التخلي عن المشروع الذي تبلغ كلفته 50 مليار دولار، والذي كانت شركة “غازبروم” ستنقل من خلاله الغاز الروسي إلى بلغاريا وصربيا والمجر. لكنه تعهّد بإنشاء خط أنابيب يمر تحت سطح البحر الأسود باتجاه تركيا كبديل عن مشروع “ساوث ستريم”، ووعد بخفض أسعار الغاز الطبيعي فضلاً عن زيادة صادرات الغاز إلى تركيا بمعدّل الثلث.
وقد أبهجت هذه الأنباء الأوساط الموالية للحكومة التركية في الوقت الذي تواجه فيه تركيا عزلة متزايدة على الساحة الدولية. فقد شوهِد أردوغان يشعّ غبطة وسروراً إلى جانب نظيره الروسي عندما قطع بوتين وعوده السخية. لكن قيل لي في بروكسل إن الاتحاد الأوروبي يعتبر أن إلغاء مشروع “ساوث ستريم” هو هزيمة لبوتين. فقد أجمعت الآراء على أن المشروع – الذي عارضته بروكسل منذ البداية بسبب انتهاكه لقواعد المنافسة في الاتحاد الأوروبي – وقع ضحية التجاذبات الأخيرة بين بروكسل وروسيا. واقع الحال هو أن بوتين أذعن للعقوبات الأوروبية والقيود المالية المفروضة على موسكو.
ورد في افتتاحية في صحيفة “فايننشال تايمز” بعنوان “انهيار مشروع ساوث ستريم انتكاسة كبيرة لبوتين”: “تصوير بوتين إلغاء المشروع بأنه خسارة لأوروبا وربح لتركيا لا يرتكز على حجج قوية. لقد أُرغِم على التخلّي عن مشروع يجري التخطيط له منذ حين، وهذا يشكّل انتكاسة استراتيجية لروسيا… ليس صحيحاً القول بأن التوصل إلى اتفاق روسي مع تركيا يقدّم بديلاً استراتيجياً عن المشروع. فتركيا ليست كبيرة بما يكفي للحلول مكان السوق الأوروبية التي كان مشروع ساوث ستريم موجّهاً إليها. وأية خطة قد تلجأ إليها موسكو لنقل الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي عبر تركيا سوف تصطدم بالمشكلات عينها التي واجهها مشروع ساوث ستريم”.
إذا كان ما جرى انتكاسة استراتيجية لروسيا، فما الذي تحقّقه تركيا من التحالف مع الفريق الخاسر ضد الاتحاد الأوروبي الذي تسعى إلى الانضمام إليه؟ من خلال إعادة الاصطفاف إلى جانب روسيا المتعنّتة في موقفها العدواني من أوكرانيا – والتي تختلف معها أنقرة في موقفها من المسألة السورية – تُعرِّض تركيا علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أي مع الغرب، لمزيد من الخطر.
على ضوء التنافر في العلاقات مع الغرب وروسيا فضلاً عن خسارة الروابط الحصرية مع حكومة إقليم كردستان، تحوّلت تركيا، في فترة قصيرة، إلى “متفرِّجة جيوسياسية” بدلاً من أن تكون “لاعبة جيوسياسية لا تُقدَّر بثمن” في السياسة الدولية.