التعامل مع النجاح في القتال ضدّ «داعش»
جيمس جيفري – معهد واشنطن
بدأت للتو المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، بينما يعيد المسؤولون في واشنطن التأكيد على أنها ستكون معركة طويلة الأمد، وذلك حتى في العراق، وهي الجبهة التي تعطيها إدارة الرئيس أوباما الأولوية. ومع ذلك، فإنّ النجاحات التي حققتها مؤخراً قوات البشمركة الكردية والقوات الفدرالية التي تتحكم بها بغداد تشير إلى انعكاس في اتجاه هجوم الجماعة الجهادية في العراق، ما سيؤدي على الأرجح إلى احتوائها وطردها في النهاية من الموصل والفلوجة وتكريت. وكما في أي حملة عسكرية، حالما تمسك الولايات المتحدة وحلفاؤها بزمام الأمور، سيغذي الزخم الذي ستكتسبه المزيد من النجاح، وهو الأمر الذي اختبره تنظيم «الدولة الإسلامية» بنفسه في حزيران/يونيو عندما اجتاح معظم مناطق العراق ذات الأغلبية السنية العربية. وفي ظرف عامٍ، يمكن لنجاحات قوات التحالف أن تدمر الجماعة كقوة تقليدية رئيسية في العراق، إذا افترضنا أنّ الإدارة الأمريكية قادرة على الإجابة على السؤال: “من الذي سيوفر القوات البرية” في العمل الهجومي؟ (قد تتمثل إحدى الإجابات على هذا السؤال بمزيج من اثني عشرة كتيبة من كتائب الجيش وقوات البشمركة معاد تدريبها وتجهيزها وفقاً لخطط الولايات المتحدة، إلى جانب عناصر عربية سنية من الحرس الوطني وتواجد أمريكي تقدمي على الأرض أكثر حدّةً يتضمن “متحكمين فى محطات الهجوم المشترك” ومستشاري وحدات؛ ومع ذلك، فقد تكون هناك حاجة إلى وجود عدد محدود من القوات البرية الأمريكية لتعزيز مثل هذه القوة المحلية).
وهكذا، بات من الملائم البدء بالتفكير فيما سيحصل إذا سار القتال في العراق على ما يرام. ففي تلك الحالة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين نجاحها هناك إذا كانت تأمل أن تحرز أي تقدم ضد قوات «داعش» التي ما زالت سليمة في سوريا، وضد الجهود التي قد تبذلها إيران للاستفادة من انتكاسات الجماعة، وضد العراقيل العرقية والدينية التي تلازم الدولة العراقية منذ فترة طويلة. وفي ما يلي بضع مؤشرات سياسية وعسكرية عامة لترسيخ مثل هذا النجاح:
1. عدم السماح للمثالية بأن تكون عدوة ما يمكن تحقيقه.
لقد ركّز الجيش الأمريكي انتباهه – على نحوٍ صائب – على السؤال الشهير الذي طرحه الجنرال ديفيد بترايوس في عام 2003: “أخبروني كيف سينتهي هذا الأمر”. وفي حين أنّ ذلك اعتباراً جوهرياً يجب أن تراعيه أي عملية عسكرية، إلاّ أنّه يمكن أن يحول دون العمل الفعلي إذا ما تمت المبالغة في التفكير فيه عندما يكون الوضع غير مؤكد. وبالإضافة إلى ذلك، إن المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» هي بمثابة حملة “قوة اقتصادية” منخفضة التكلفة تتضمن هدفاً صريحاً يقضي بـ”عدم التسبب بإصابات”. وفي مثل هذه الحملات، تقلّ الحاجة إلى الإجابة بشكل حازم على السؤال الذي طرحه الجنرال قبل شنّ المعركة الكاملة مقارنة بالتفكير في إلزام مئات الآلاف من الجنود وتوقع خسائر فادحة وتطبيق “عقيدة باول” العسكرية التي تنص على أنّه لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تقدم على الحرب إلاّ حين تكون ملاذاً أخيراً، ثم تخوضها بقوة عسكرية هائلة.
2. العمل العسكري في بعض الأحيان ليس وسيلةً فحسب، بل غايةً.
رغم أنّه يجب الأخذ بنظر الاعتبار مبادئ المنظّر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز حول أولوية السياسة في أي نزاع، إلاّ أنّه لا يجدر بهذه المبادئ أن تردع القادة من تنفيذ عمليات عسكرية فعالة من أجل تغيير الوضع العسكري في حالة طوارئ، وذلك حتى قبل الدخول في جميع تفاصيل التوصل إلى حل سياسي. إن النزاع مع «داعش» ما زال يشكل حالة طوارئ. وبالتالي، فإنّ إيقاف الجهاديين من التقدم في العراق وسوريا ودحر تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل رداً فعالاً، ويعود ذلك بجزء منه إلى أنّه سيؤدي في النهاية إلى صياغة الخيارات السياسية. وكان الرئيس أوباما على حق عندما حذّر في خطابه في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في “وست بوينت” في 28 أيار/مايو بأنّ ليست جميع المشاكل “مسامير” تتطلب “مطرقةً” عسكرية. غير أنّ النتيجة الطبيعية هي أنّ بعض المشاكل هي مسامير في الواقع، وضربها بالمطرقة العسكرية هو الخيار الصحيح.
3. أي نتيجة سياسية متركزة حول إجراء تغيير جذري في المنطقة وإنهاء حالات التفشي المشابهة لحالة «داعش» محكوم عليها بالفشل.
إنّ الشرق الأوسط بوتقة من التعقيد والاختلال والصراعات. وعلى الولايات المتحدة أن تبقى منخرطة فيه نظراً للمصالح الحيوية التي أعاد الرئيس أوباما التأكيد عليها – وهي مكافحة الإرهاب ووقف الانتشار النووي ودعم الحلفاء والشركاء وتسهيل تدفق النفط والغاز – إلا أنه ليس بإمكانها “إصلاح” المنطقة. فقد تم تجربة ذلك بالفعل بشكل متكرر في أماكن مثل بيروت ومقديشو، وعلى نطاق أوسع في أفغانستان والعراق حيث كانت النتائج غير مرضية على أفضل حال.
وكما يؤكد هنري كيسنجر في كتابه الجديد “النظام العالمي”، إنّ الحجر الأساسي لمجمل الانخراط الأمريكي والدولي على مرّ القرن المنصرم – والذي يتمثّل بالدولة القومية و”نظام ويستفاليا” المتمثل بسيادة الدولة القومية الذي نتج عن صلح وستفاليا الذي أنهى توقيعه حرب الثلاثين عاماً والذي تشكل الدول جزءاً لا يتجزأ منه – يتّسم بالضعف في الشرق الأوسط بشكل خاص نتيجة هشاشة الجذور الوطنية والتنافس القائم بين الهويات المحلية والشمولية، بما فيها الحركات القومية العربية والدعوات الدينية الواعدة بالخلاص من أمثال آيات الله في إيران وتنظيم «الدولة الإسلامية». ويشكك الكثيرون في الولايات المتحدة وأوروبا في نقل القيم الغربية إلى الشرق الأوسط، وينقسمون بشأن انضمام المنطقة إلى الغرب. كما وأنّ عناصر رئيسيةً في المجتمعات الشرق أوسطية، بما فيها معظم الحركات الدينية، تعارض مثل هذا الاعتناق للهوية الغربية العلمانية إلى درجة أو أخرى، ولن تلتزم به سوى شريحة صغيرة من سكان المنطقة.
4. على شعوب المنطقة، وليس الغرباء، أن تحل مشاكلها.
رغم أن هذا المبدأ ينطبق في جميع أنحاء العالم، إلاّ أنّه يمت بالصلة الأكبر إلى الشرق الأوسط نظراً إلى عمق واتساع المشاكل التي تهدد نظامه الداخلي. فمعالم الحداثة المجتمعية تنكشف في المنطقة وسط هياكل وطنية ضعيفة وتردد في تبني النماذج الغربية الموصوفة أعلاه، ما يُنشئ حدة توتر عالية جداً. ويمكن لسائر العالم أن يساعد في بعض من هذه المسائل، ولكن، ما لم تحصل “صحوة” داخلية حقيقية بين شعوب المنطقة – بعيداً عن الحركات السياسية الواعدة بالخلاص وباتجاه الأعراف السياسية السائدة في أغلب بقية دول العالم – لا يمكن أن يحدث أي تغيير جوهري.
5. يجب تجنّب تنفيذ القوات البرية الأميركية لعمليات كبيرة تهدف إلى حقيق الاستقرار.
لا يتأتى هذا التحذير من الوضع الإقليمي الذي تم وصفه أعلاه فحسب، بل أيضاً من تجارب أمريكا المكثفة فيما يخص تغيير نظام الحكم وعمليات تحقيق الاستقرار وبناء الأمة تحت وقع إطلاق النار منذ حرب فيتنام وحتى العقد الماضي. لذا فأي محاولة مماثلة ستحقق في أفضل حالاتها نجاحاً مشكوكاً فيه – حتى وإن لم ترَ شعوب المنطقة القوات الأمريكية على أنها قوات احتلال، وحتى إن لم تقوّض الدول المجاورة المتوترة جهود الولايات المتحدة، وحتى لو امتلك الشعب الأمريكي صبرٍاً كبيراً. غير أنّه من غير المرجح أن يحصل أياً من هذه الاحتمالات السارّة، مما يجعل النجاح أمراً بعييد الاحتمال بصورة أكثر. وبالإضافة إلى ذلك، تميل مثل هذه الحملات إلى نزع رغبة الشعب الأمريكي في الانخراط في أي اشتباك عسكري، حتى وإن كان ضرورياً ومنخفض التكلفة.
6. الانخراط الأمريكي المستمر، بما فيه التواجد العسكري المحدود، أمر ضروري للنجاح على المدى الطويل
سيكون التوافق السياسي بين مختلف الجماعات العرقية والدينية في العراق، كما وفي سوريا في النهاية، أمراً ضرورياً – مهما كان صعباً – لهزيمة «داعش» بشكل كامل ومنع التنظيم أو أي حركة إسلامية في الألفية المقبلة من كسب موطئ قدم جديد. فكما رأينا مراراً وتكراراً، إنّ المؤسسات الدستورية والديمقراطية في الشرق الأوسط هي عرضة لضغوط طائفية واستبدادية، وخاصة إذا كانت تلقى دعماً من الخارج. ولذلك، يجب على أي توافق سياسي أن يرتكز على اللامركزية والمشاركة الفعالة في السلطة، بما في ذلك فيما يتعلق بقوات الأمن والموارد الطبيعية والإيرادات.
لقد حققت العراق أكبر قدر من النجاح في هذا الإطار عن طريق إنشاء وصيانة هياكل تمكّن “حكومة إقليم كردستان” من التواجد في الشمال. غير أنّ توسيع نطاق مثل هذه الحلول حول لمشاركة في السلطة في المناطق العربية السنية في العراق، كما في أوساط الجماعات العرقية والدينية في سوريا في نهاية المطاف، سيتطلب إحداث تغيير ثقافي داخلي وتوفير ضمانات دولية وقوة مراقبة خارجية. وفي حين يجب أن تأتي الشرعية السياسية لمثل هذه الخطوات من الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية الأخرى، يجب أن تأتي القوة العسكرية اللازمة لتنفيذها من الولايات المتحدة. وسيتعين إثبات مصداقية هذه القوة عبر إبقاء عدد محدود من القوات الأمريكية في العراق وربما في سوريا وحولها، على أن تكون جميعها مخولة للدفاع عن الضمانات الدولية والنظام اللامركزي.
ومن شأن مثل هذه الضمانات أن تعطي كافة الأطراف حافزاً للالتزام بالاتفاقيات والاستجابة إلى التحديات، ليس من خلال الهندسة الاجتماعية، بل عن طريق العقوبات التجارية والمالية والعزل الدبلوماسي، وإذا لزم الأمر، بقوة عسكرية انتقائية. لقد نجح الغرب مراراً وتكراراً بفرض العقوبات والعزل، وأحدث الأمثلة على ذلك ما فُرض على روسيا وإيران. كما أن الجيش الأمريكي في العراق نجح بتشجيع جميع الأطراف على التقيد بالمشاركة في السلطة على طول الخط الفاصل بين الطرفين الكردي والعربي وبين بغداد وقوات “الصحوة” العربية السنية. وتحقيقاً لهذه الغاية، لا بد من أن تحافظ الولايات المتحدة على سلامة ومصداقية التزاماتها العسكرية في جميع أنحاء المنطقة – مع إسرائيل، وضد إيران، وفي أفغانستان.
7. تمديد الوقت في صراع طويل الأمد.
لا يمكن الإجابة على سؤال “كيف سينتهي الأمر” بسيناريو وجدول زمني واضحين ولا حاجة إلى الإجابة عليه لتبرير استخدام “المطارق” العسكرية في حالات الطوارئ. ومع ذلك فإنّ الواقع السياسي ودبلوماسية التحالفات تتطلب إجابةً ما. إن أفضل جواب في الوقت الراهن هو أنّ برنامجاً مثل ذلك الوارد أعلاه – الذي يتم تطبيقه عند الضرورة ما بعد إطار العراق وسوريا و تنظيم «الدولة الإسلامية» ليشمل تحديات أخرى تواجه النظام الدولي – سوف يمدد الوقت المتاح للشرق الأوسط لكي تتوصل المنطقة إلى الحداثة والتغيير الداخلي اللازمان لترسيخ مبدأ الدولة القومية وتوفير مثبطات محلية للعنف والاضطرابات. هذه ليست بصيحة قتال تحثّ على تحقيق المجد، إنّما هي خطوة تتمتع بميزة كونها قلبلة للتحقيق.