“داعش” يفتح جبهات “إشغال” ويستثمر في عجز العراقيّين عن قيادة حرب موحّدة
المونيتر – مشرق عباس
ما زال الانفصال مستمرّاً بين الإعلانات الرسميّة حول مسار المعارك ضدّ تنظيم “داعش” في العراق، وبين تحرّكات التنظيم على الأرض. ففي الوقت الذي كانت التوقّعات تشير إلى قرب معركة تحرير مدينة الموصل، كان “داعش” يدفع المزيد من مقاتليه في اتّجاه الأنبار وصلاح الدين وكركوك، لفتح جبهات جديدة، تنقل سياق المعركة بالنسبة للقوى العراقيّة من الهجوم إلى الدفاع.
في الفترة الممتدّة بين 30 كانون الثاني/يناير و18 شباط/ فبراير، فتح “داعش” جبهات مختلفة ومتباعدة في وقت واحد، فهاجم في 30 كانون الثاني/يناير كركوك، ونجح في الوصول إلى مناطق حسّاسة في المدينة، ومنها حقل خباز النفطيّ قبل أن يجبر على الانسحاب، بعد وصول قوّات إضافيّة من البيشمركة، قادمة من مناطق التماس مع “داعش” في الموصل.
وجاء الهجوم بعد يوم واحد من مهاجمته مراكز تجمّع البيشمركة في تلعفر وسنجار شمال غرب الموصل.
وفي حين كان “التنظيم” يشغل البيشمركة عبر فتح جبهات مختلفة على الحدود الغربيّة والشرقيّة والشماليّة لمدينة الموصل، كان يفتح جبهات جديدة في الأنبار وصلاح الدين جنوب الموصل.
ففي 12 شباط/فبراير، هاجم “داعش” ناحية البغدادي في الأنبار، التي تضمّ قاعدة عين الأسد، أهمّ القواعد العسكريّة والتي يتواجد فيها عشرات من المستشارين والمدرّبين الأميركيّين.
ومع تحرك قوّات البيشمركة في اتّجاه كركوك، شنّ التنظيم في 17 شباط/فبراير هجوماً على قاطع مخمور غرب إربيل، الذي يشكّل نقطة التماس العسكريّة الأقرب إلى إقليم كردستان.
في هذا التوقيت، وفي 13 شباط/فبراير تحديداً، كان “داعش” يهاجم مناطق شمال سامراء، ويحتلّ بلدة مكيشيفة، إلى الجنوب من تكريت، قبل أن ينسحب منها بعد أيّام من ذلك التاريخ.
ونجح التنظيم بالفعل في احتلال البغدادي ليومين، وتنفيذ عمليّات إعدام كبيرة، لكنّه لم يتمكّن من اقتحام قاعدة عين الأسد المحصّنة. ولم تبدأ الأجواء بالانفتاح في هذه الجبهة إلّا في 22 شباط/فبراير عندما نجحت القوّات العراقيّة، وبعد وصول إمدادات كبيرة من بغداد، في فتح ممرّ آمن إلى مجمّع سكنيّ استمرّ محاصراً لعشرة أيّام من قبل عناصر التنظيم.
كانت كلّ تلك التحرّكات وأخرى في مناطق مختلفة شمال بغداد وفي ديالى، تهدف إلى إرباك خطط تحرير تكريت، والموصل، وهما المدينتان اللتان تتوجّه إليهما الجهود العسكريّة، ويتمّ الحديث عن استعدادات لتحريرهما.
فالتنظيم يدرك أنّ ارتفاع مستوى الحشد النفسيّ للتهيئة لتحرير الموصل، وهو الهدف الاستراتيجيّ الهامّ والمعقّد، بدأ يتّخذ منذ بداية العام الحاليّ أشكالاً أكثر جديّة. فالقيادات الأميركيّة كثّفت خلال الشهرين الماضيين تصريحاتها حول قرب معركة تحرير الموصل، وخاضت في بعض توقيتات هذه العمليّة، قبل أن ينفي وزير الدفاع الأميركيّ أشتون كارتر هذه التوقيتات.
في السياق ذاته، كانت قوّات الحشد الشعبيّ تضع بدورها توقيتات لساعة صفر لعمليّة تحرير تكريت.
وتؤكّد الأنباء طوال الأسابيع الماضية أنّ حشوداً من مقاتلي الحشد الشعبيّ والجيش وصلت بالفعل بالقرب من تكريت للبدء بعمليّة تحريرها.
في الغالب، يدرك تنظيم “داعش” إمكانات عدوّه الفعليّة، وهو خلال كلّ الأشهر الماضية، أظهر نوعاً من الواقعيّة في التعامل مع ساحات المعركة. وعندما بدا له أنّ مهمة السيطرة على مناطق في ديالى، خصوصاً في جلولاء والسعديّة والمقداديّة مستحيلة، بسبب حجم القوّات المهاجمة له، انسحب منها تدريجيّاً، واختار أن ينفّذ بين فترة وأخرى هجمات متقطّعة للإشغال.
على الخريطة حتّى اليوم، ما زال “داعش” يحتفظ بالمدن الرئيسيّة التي احتلّها في حزيران/يونيو 2014، وهي الموصل وتكريت والحويجة والقائم وأجزاء من الرمادي، إضافة إلى مدينة الفلّوجة التي احتلّها منذ كانون الثاني/ يناير 2014.
لكنّ تلك الخريطة ليست ثابتة على مستوى عشرات القرى والنواحي التي تخلّى عنها التنظيم مهزوماً، أمام تقدّم القوّات العراقيّة وقوّات البيشمركة والحشد الشعبيّ.
ومع أنّ “داعش” استمرّ في محاولة إثبات أنّ وجوده في المدن طويل المدى، فإنّه بدأ يشعر بأنّ الجهود العراقيّة والدوليّة جادّة في استعادة تلك المدن.
نقطة الضعف التي لطالما كانت واضحة في إمكانات “داعش” العسكريّة ويدركها قادة التنظيم، هي ضعف قدرته على مواجهة هجوم منظّم لقطعات عسكريّة كبيرة ومجهّزة ومدعومة بغطاء جويّ.
في المقابل، فإنّ نقطة قوّة التنظيم، هي قدرته على التنقّل بمجموعات صغيرة (100 إلى 200 مقاتل) مجهّزة بانتحاريّين ومدعومة بإمدادات عتاد تكفي لفترة تمتدّ من يومين إلى أسبوع، لمهاجمة أهداف مختلفة في جبهة واسعة مع البيشمركة والجيش العراقيّ وقوّات الحشد الشعبيّ والعشائر، تصل إلى مئات الكيلومترات وتتضمّن العشرات من نقاط التماس التي تمثّل بلدات وقرى وطرق ومنشآت متفرّقة، ويصعب الدفاع عنها كلّها في وقت واحد بالقوّة نفسها.
يراهن “داعش” خلال الأشهرة المقبلة، على إحباط قدرة العراق والتحالف الدوليّ على جمع أعداد مناسبة من المقاتلين (بين 20 و40 ألف مقاتل) للهجوم على المدن التي يحتلّها، ويتطلّب هذا الأمر منه إشغال المزيد من القوّات في سدّ ثغرات الجبهة الواسعة مع التنظيم.
فتشتّت الجبهات، وتحوّلها إلى جبهات مناطقيّة مقسّمة بين البيشمركة والحشد الشعبيّ والجيش العراقيّ والعشائر، يمنعان تحقيق الحشود اللازمة في توقيت واحد لتحرير إحدى تلك المدن الأساسيّة التي تقع في يدّ التنظيم.
وكان المثال في كركوك واضحاً، فالجدل حول نوع القوّة التي تواجه “داعش” في المدينة استمرّ لأيّام، بين القيادات الكرديّة وقيادات الحشد الشعبيّ.
والحال نفسه ينطبق على جهود تحرير الموصل، التي ما زالت تنتظر تدريب قوّات من أهالي المدينة وتأهيلها لتحريرها، والأمر مشابه أيضاً في الأنبار.
بالطبع، كانت الخلافات السياسيّة والصدامات الحزبيّة، والانشقاقات الاجتماعيّة سبباً مباشراً في عدم قدرة العراق على إنتاج رؤية مشتركة وقيادة موحّدة في الحرب على “داعش”، وهذه نقطة ضعف يدركها التنظيم جيّداً، ويحاول استثمارها، عبر المراهنة بفتح المزيد من الجبهات وإشغال المزيد من القوّات في معارك تؤخّر حرب استعادة المدن.