شهداء ساحة التحرير ، شهداء نضال عراقي لاعنفي مستمر
مبادرة التضامن مع المجتمع المدني العراقي ٢٠ شباط ٢٠١٧
شهدت بغداد في السبت المصادف ١١ شباط، مظاهرات سلمية دعى لها رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر”، وساهم بها إلوف من المتظاهرين من أتباع رجل الدين وعدد من المدنيين. إنطلقت التظاهرات من ساحة التحرير بمطلب موحد وهو تغيير مفوضية الانتخابات، المتهمة بالفساد والإنحياز الى الأحزاب الحاكمة وخصوصاً حزب الدعوة.
وحين حاول المتظاهرون عبور جسر الجمهورية الرابط بين ساحة التحرير والمنطقة الخضراء، قامت قوات حكومية خاصة تلبس الملابس الرسمية ذات اللون الاسود بإطلاق النار والغاز المسيل للدموع وضرب المتظاهرين. إستشهد نتيجة الحادث ٩ أشخاص وجرح ٢٨١ آخرين. بين الشهداء ٨ من المتظاهرين العزل، أما التاسع فكان عنصر من الشرطة العراقية حاول حماية المتظاهرين من قمع “القوات ذات الملابس السوداء”.
وإدعت الحكومة العراقية أن هنالك “مندسين” بين المتظاهرين حرضوا على العنف، بينما يتهم المتظاهرون القوات الحكومية الخاصة بالتسبب بالعنف والقتل للمتظاهرين اللاعنفيين. و نشر نشطاء صوراً و فيديوات على موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” توضح إعتداء القوات الخاصة على متظاهرين وعناصر من الجيش، بسبب تعاطفهم مع المتظاهرين.
وبالرغم من الإختلاف حول كيف بدأ العنف، يتفق الجميع على أن الطابع العام للتظاهرة كان لاعنفياً وإن الشهداء الذين سقطوا لم يكونوا متورطين بالعنف بل ضحايا دفعوا دمائهم ثمناً لنضالهم اللاعنفي من أجل التغيير والإصلاح.
وبالرغم من أن تاريخ النضال اللاعنفي في العراقي حافل بأمثلة مهمة، لكن المرحلة الحالية تبدو حاسمة في رسم ملامح عهد جديد من إستخدام وسائل اللاعنف من أجل إنجاح تغيير سياسي واسع وبهذا الحجم. و دماء الشهداء هذه المرة تُعمد هذه المرحلة وتجعل منها ذات أهمية خاصة.
للعراق اليوم قائمة مهمة من شهداء النضال اللاعنفي يحتفى ويقتدى بهم، بعد أن كانت مفردة “شهيد” مرتبطة بشكل كبير بضحايا المقاومة العنفية أو الحروب أو ضحايا الإرهاب من مدنيين.
وإجتمع عدد مهم من قيادات النضال اللاعنفي من مدنيين ومن أتباع رجل الدين مقتدى الصدر في مؤتمر صحفي عبروا فيه عن إصراراهم على النضال اللاعنفي بالرغم من التضحيات وبالرغم من أن حياتهم مهددة بسبب هذا النضال.
وأصدرت مجموعة “مدنيون” بياناً حمّل السلطة التنفيذية المسؤولية كاملة عن حماية المتظاهرين وضمان حقوقهم في الإحتجاج السلمي. وطالبتها بإجراء تحقيق عاجل عن الجهة التي تقف وراء القوات الخاصة التي قتلت المتظاهرين. وأكد البيان على ضرورة الإلتزام بالسلمية وإستمرار الإحتجاج.
بينما أصدر رجل الدين العراقي “مقتدى الصدر” بياناً مطالباً الإلتزام بالسلمية واللاعنف للنهاية مهما حصل من رجال الأمن. ورفض الصدر أي تحرك عنفي أو إنحراف عن المنهج السلمي في المقاومة، مستشهداً في بيانه هذا بشخصيات مقاومة ومنها “غاندي”. وتعد الإشارة لغاندي أمراً نادراً وذو دلالة مهمة خصوصاً وانها صدرت عن قيادي مهم مثل الصدر و في توقيت حرج جداً.
وإتهم عضو البرلمان العراقي فائق الشيخ علي بمؤتمر صحفي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بالوقوف وراء الإعتداءات التي طالت المتظاهرين كونه صاحب المصلحة في بقاء المفوضية الحالية لأنها تقع ضمن نفوذ حزبه، ولأنه معادٍ للحراك الإحتجاجي السلمي بشكلٍ عام ومنذ أعوام.
وفي حدث لاحق إحتفل المتظاهرون اللاعنفيون بشهدائهم بتشييع رمزي سار من مستشفى الجملة العصبية في بغداد الى ساحة التحرير. حمل المتظاهرون نعوش رمزية كتبت عليها أسماء شهداء اللاعنف وأضيف نعش للشهيد هادي المهدي، في إشارة مهمة لتواصل النضال اللاعنفي. فالشهيد هادي المهدي أغتيل في بيته عام ٢٠١١ في عملية تصفية لقيادات التظاهرات المدنية في بغداد، وأتُهم بالمسؤولية عن قتله في وقتها أتباع رئيس الوزاراء السابق نوري المالكي. وبالرغم من أن الأخير لم يعد رئيس للوزراء ما يزال المتظاهرون يعتبروه مسؤولاً عن إرسال مندسين للتحرش بالمتظاهرين وإرهابهم، وبأن له يد طولى في تحريك القوات الخاصة ذات الملابس السوداء و إعتدائاتها المتكررة على المتظاهرين وقتل البعض منهم.
ونجح المتظاهرون بإتمام التشييع بشكل سلمي، حيث أطلقت لجانهم المشرفة على التشييع تعليمات خاصة تضمنت ١٠ نقاط مهمة عن مكان وموعد التشييع ومنها تعليمات مهمة عن اللاعنف نقتبس منها هنا:
“التعاون التام مع أخوتنا في القوات الامنية، وعدم الانجرار الى أي إستفزاز يراد له أن يسحبنا الى ساحة العنف”.
“السلمية واللاعنف هو منهجنا في الاحتجاج، لن نحيد عنه أبداً مهما كلفنا الامر”.
“الهتافات بحب العراق فقط، وعدم حمل أي لافتة أو صورة لأي شخصية أو جهة الا العلم العراقي”.
وبالرغم من أن الاضواء مسلطة بشكل كبير على بغداد وعلى أتباع رجل الدين مقتدى الصدر منذ الحادث، لكن هنالك تضامن كبير مع الحراك الاحتجاجي في مناطق عديدة من العراق. حيث شهدت البصرة تظاهرات تضامنية كبيرة نظمتها حركة “مستمرون”
كما قامت عدد من المدن في جنوب العراق بتنظيم مجالس عزاء رمزية لمن أسموهم بـ “شهداء الاصلاح”. و شهدت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي رسائل تضامن عدد من النشطاء من غرب وشمال العراق.
فكتب الناشط المدني من مدينه هيت – محافظة الانبار ، أحمد عبد السلام بأن قتل المتظاهرين السلميين، ليس فعلاً طائشاً بل فعل ممنهج ومدروس يهدف لخلط الأوراق ويدل على عجز القوى المتنفذة أمام المقاومة اللاعنفية.
وكما هي عادة الإعلام تم التركيز على حادث إطلاق قذائف هاون على المنطقة الخضراء الذي تلى الإعتداءات على المحتجين السلميين. وبالرغم من أن الهجوم المحدود والذي لم يسفر عن أي خسائر لحسن الحظ، قد يكون مرتبطاً بقمع الإحتجاجات،
لكنه وبنفس الوقت يضل حادث معزول ومحدود يبدو أنه صدر من مجموعة صغيرة تورطت برد فعل عنيف.
لكن كل الدلائل ومنها التصريحات التي تبعت هذا الهجوم من قيادات الحراك اللاعنفي، تشير الى أن الحادث لا يمثل ولا يعبّر عن التوجه العام لقيادة الحراك اللاعنفي التي أرادت الاستمرار بالتحرك بنهجها اللاعنفي لحين تحقيق أهدافها التي أعلنتها.
وعن سبب تركيز الاحتجاجات في هذه المرحلة على مطلب تغيير مفوضية الانتخابات، يوضح “جاسم الحلفي” أحد قيادي الاحتجاج المدني، بأن الاحتجاج في البداية خرج بثلاثة مطالب وهي: إصلاح النظام السياسي، ومكافحة الفساد، وتأمين الخدمات، لكن وبعد تراجع الحكومة عن إلتزامها بتحقيق هذه المطالب تحاول حركة الاحتجاج إحداث تغيير من خلال الانتخابات القادمة (إنتخابات مجالس المحافظات في أيلول القادم، تليها الانتخابات العامة في عام ٢٠١٨). لكن الاحزاب الحاكمة والمتنفذة تحاول البقاء في السلطة من خلال نفوذها في مفوضية الانتخابات ومن خلال فرض قانون يرجح كفتها. لذلك إعتبرت حركة الاحتجاج في الاسبوع الماضي مطلب تغيير المفوضية كأولوية.
وتأتي هذه التطورات ضمن مسار طويل شهدته الإحتجاجات العراقية اللاعنفية التي بلغت ذروتها في أبريل من العام الماضي حين إقتحم المحتجون وبشكل لاعنفي مبنى البرلمان العراقي قبل أن ينسحبوا منه بعد وعود بإصلاحات وتغييرات جذرية.
وأصدر مكتب الأمم المتحدة في العراق “اليونامي” بياناً أدان فيه الإعتداء على المتظاهرين، بينما وعد رئيس الحكومة العراقية “العبادي” بإجراء تحقيق عن الجهات التي تقف وراء الإعتداء على المتظاهرين.
وسجلت منظمة “جمعية المواطنة لحقوق الانسان“ شكوى قانونية ضد الحكومة العراقية، لدى مفوضية حقوق الإنسان العراقية، وضد القوات الأمنية، بسبب إستخدامها أسلحة نارية ضد تظاهرة سلمية وقيامها بعملية قتل عشوائي لتسعة مدنيين. وقالت بأنها ستقدم الشكوى أيضاً للمدعي العام.
وترى مبادرة التضامن مع المجتمع المدني العراقي بأن الحكومة العراقية والمجتمع الدولي اليوم أمام مسؤولية كبيرة، تتمثل بضرورة محاسبة المعتدين على المحتجين والمجرمين الذين قتلوا المتظاهرين السلميين. كما أن عليهم مسؤولية حماية المحتجين المنخرطين في النضال اللاعنفي، والتأكد من توفر المساحة المطلوبة لهم للتعبير عن مطالبهم من أجل التغيير، لكي يكون هنالك بديل حقيقي عن العنف كوسيلة للتغير في بلاد أنهكتها الحروب والعنف منذ أكثر من أربعة عقود.