الاحتجاجات العراقية مرة أخرى.. الحقوق يقابلها الدم!
أحمد علاء. ناشط مدني من العراق
خاض إيهاب حسين (٢٤ عاماً) تجربته الاحتجاجية الأولى مطلع أكتوبر ٢٠١٩، وهو المتخرج العاطل عن العمل في اختصاصه كمعلم للكيمياء، ويعمل بائعاً متجولاً، يساهم مع أخيه بإعالة أسرته البالغة ٧ أشخاص بعد استشهاد أبيه بانفجار سيارة مفخخة في مدينة الثورة عام ٢٠١٦. وقد وجد في الاحتجاجات فرصته للاعتراض على تكسير “بسطته” قبل أسابيع ومنعه من كسب قوته وعائلته من خلالها، وحقق هذا الشاب الفقير حضوراً متميزاً من خلال شعاره الذي علقه على صدره “أريد فرصة عمل”!
شرارة الحراك وعمليات القمع
لأشهرٍ خلت، تظاهر العشرات من الشباب الخريجين أمام بعض الدوائر الحكومية للمطالبة بفرص عمل، وبعد إهمال وعدم اكتراث، استغبى أحد القيادات الأمنية وأطلق عليهم الماء الحار لتفريقهم، وإثر نشر صور القمع الذي تعرض له المحتجون على مواقع التواصل الاجتماعي، تعالت الأصوات المستنكرة وانطلقت الدعوات لتظاهرات أكبر.
وبالفعل، انطلقت الاحتجاجات العراقية في الأول من أكتوبر، لكنها تضاعفت من حيث الزخم الشعبي في اليومين التاليين، إذ احتشد مئات آلاف الشباب المعدمين والعاطلين عن العمل في عدد من الساحات العامة والطرقات في بغداد والمحافظات الجنوبية. وفي المساء بدأت عمليات “غريبة ومفاجئة” كما يقول عبدالله فؤاد (٢٢ عام) “حيث ضربنا من قبل قناصين استهدفونا بشكل مباشر، وتزامن هذا مع موجة لتحرك رجال الأمن بآلياتهم ومعداتهم نحونا وإطلاق عشوائي للرصاص الحي، فسقط الكثير من الشباب حولي، ونجوت بأعجوبة بعد اختبائي خلف إحدى حاويات القمامة لأهرب بعدها الى بيت أحد اقاربي”، ويضيف “كان الوضع جنونياً. لم يخطر ببالي عندما ذهبت للمشاركة في الاحتجاجات أنني ذاهب إلى ساحة حرب”.
لاحقاً صرح الناطق باسم القوات الأمنية أن القتلى الذين سقطوا أثناء الاحتجاجات بلغ أكثر من ١٠٠ شاب وشابة بينهم عدد من أفراد القوات الأمنية، وبلغ عدد الجرحى أكثر من ٦٠٠٠ شخص حسب تصريحه. اتهمت روايات ناشطين رفضوا ذكر أسمائهم، بأن عمليات القنص والرصاص الحي أتت من قبل مليشيات مرتبطة بأحزاب السلطة وبعض القوات الأمنية الرسمية، فيما أنكرت الرواية الحكومية ذلك بعدم معرفتها بهوية القناصين معلنةً هروبهم، وأنها مازالت تحقق في تورط عدد من القادة العسكريين في إطلاق الرصاص الحي تجاه المتظاهرين، وأضافت “إن القائد العام للقوات المسلحة السيد رئيس مجلس الوزراء قد شكل لجنة تحقيق بمجريات الحادث”.
مدونون على مواقع التواصل الاجتماعي اتهموا الحكومة بالتسويف إذ وضعت متهمين بقتل المتظاهرين ضمن اللجنة كالسيد فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي التي تنضوي في إطارها المليشيات.
ورغم إشارات قدمها ممثلو السلطات التنفيذية عن احترامهم حق التعبير والتظاهر السلمي وفي مقدمتهم رئيس الوزراء، إلا أن مجريات الواقع اختلفت كثيراً، فقد تعرضت محطات إعلامية إلى عمليات اقتحام وتكسير للمعدات نفذتها مجموعات مسلحة غير معروفة الهوية حسب الرواية الرسمية، إلا أن المدونين اتهموا قوات “أمن الحشد الشعبي” وبعض الفصائل المنضوية في إطاره، مستدلين إلى الملابس التي كانت المجموعة ترتديها، ومشيرين في الوقت ذاته إلى أن هذه القوات هي من أطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ونفذت عمليات اختطاف ضد الناشطين، وثقت كاميرات المراقبة وهواتف المحتجين أغلبها ونشرت على مواقع التواصل وبسببها حجبت الحكومة الانترنت لأيام كي لا يتم نشرها.
مطالب المحتجين
كانت فرص العمل المطلب الأساس للشبان المحتجين، فالإحصائيات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء تشير إلى نسبة بطالة تتجاوز الـ١٥٪ بينما يرى مراقبون مستقلون أنها نسبة غير دقيقة و”إن اكثر من ٩ ملايين يعانون من البطالة”. ومع الفشل في إيجاد فرص عمل جديدة في القطاعين العام والخاص، تقطعت بالشباب السبل لمواصلة العيش خصوصاً بعد حملة إزالة التجاوزات الأخيرة للبائع المتجولين والـ”بسطات” خلال الأشهر السابقة، فاصبح وجود هؤلاء العاطلين وحياتهم مهدداً بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أثقلت كاهلهم وأسرهم بالمزيد من الفقر والعوز، في حين أثرى العديد من رجالات السلطة الذين وصلوا إلى قمة الهرم السياسي بعد اللعب على أوتار العواطف القومية والدينية والطائفية، ليخلقوا نظاماً مشوهاً يعتمد على المحاصصة “الاثنو-دين-طائفية”، وبالفساد ونهب المال العام والامتيازات التي وضعوها لأنفسهم، حققوا ثروات طائلة، وتفاقمت الهوة بين الفقراء والأغنياء.
يقول إيهاب “إن عمر النظام الحالي الآن 16 عاماً، ولم أر طوال حياتي التي عشت أغلبها في ظله إلا الألم والمعاناة، فقدت والدي وليس من فرصة للاستمرار بالحياة إلا إن تبدلت شروط الحياة بشروط أفضل” ويضيف “لقد فشل هذا النظام بتحقيق طموحنا كشعب عراقي بالعيش ولم يوفر لنا أدنى مقومات المعيشة الضرورية، لا فرص العمل، ولا الأمان ولا توفير الخدمات” ثم يستدرك “إن نظاماً كهذا لابد من تغييره من الجذور، وإحلال نظام أكثر عدالة”.
الاستجابة للمطالب
رغم إعلان الحكومة والبرلمان عن الكثير من الإجراءات في محاولة امل للتخفيف من احتقان الشارع، إلا أن وعود ما بعد الاحتجاجات السابقة أُهملت مع عودة الناس إلى بيوتها كما تقول عبير علي (٣٣ عام)، وتؤكد “إن الوضع استمر على ماهو عليه بعد احتجاجنا عام ٢٠١١ و ٢٠١٣ و٢٠١٥ و٢٠١٨، حيث استمر المتنفذون في السلطة وتحاصص الوظائف والفساد ونهب المال العام، واستمر الفشل في معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية” وهي ترى أنّ الإجراءات الحالية “هي إجراءات شكلية لا تمس جوهر المطالب التي ينادي بها الشارع ففرص العمل على سبيل المثال لا يتم حلها عبر توظيف المزيد من الشباب في سلك القوات الأمنية، بل بتفعيل الإنتاج العراقي وتشغيل المعامل المتعطلة والمعطلة لاستيعابهم”.
إن الأزمة الحالية هي أقصى ما وصله النظام وهي أبعد من مجرد إجراءات شكلية تتخذها حكومة أو برلمان للمعالجة والإصلاح، وفق ما يرى مراقبون، فالمطلوب مراجعة بنية النظام وأزمته المتمثلة بنهج المحاصصة الطائفي والاثني الذي بني عليه منذ العام ٢٠٠٣، ومن الضروري أن تحل الكفاءة والنزاهة بدلاً عن الانتماء الطائفي أو الاثني”.
استمرار الحراك
رغم القمع الوحشي للتظاهرات إلا أن الإصرار على الاحتجاج السلمي ما زال مستمراً، والناشطون متمسكون بحقهم في حرية التظاهر وفق المادة ٣٨ من الدستور العراقي، بينما تبرر الحكومة إجراءاتها بالخوف من “الإرهاب” وتسلل “المندسين”. وبين حق التعبير عن الرأي والمخاوف الأمنية يستمر الشد والجذب، حيث يؤكّد المحتجّون استمرارهم في التحرّك حتى بناء “وطن محترم”، كما تقول إحدى لافتاتهم المرفوعة في ساحة التحرير وسط بغداد.
إيهاب وأصدقائه من مدينة الثورة مستعدون بشكل جيد للتظاهر، يقول “تسلحنا بالأعلام العراقية والكمامة والمشروبات الغازية، لتقيينا شر القنابل الدخانية التي ربما تطلق علينا بسبب أو بدون سبب”. وعند سؤالنا عن القناصة أو الرصاص الحي، قال “أنا لا أخافهم وليس لدي ما أخسره”، مازحاً بشكل مؤلم بأنه، وعلى العكس، ربما إن استشهد فسيوفّر على عائلته تكاليف معيشته.